معايير 2/2

معايير 2/2
محمد قاسم(ابن الجزيرة)
Wednesday 09-05 -2007
في الحلقة الأولى من معايير أشرنا إلى أن الانضباط بالمعايير ضروري لارتقاء سلم التطور والنجاح بسبب كون المعايير تمثل حالة التراكم ألقيمي القانوني والأعرافي-إذا جاز التعبير- والتي تشكل الضوابط الناظمة للقوى اللازمة لحركية المجتمعات على مختلف الأصعدة وخاصة مستوى العلاقات المتشابكة والمعقدة والضرورية للسير في حياة متناغمة متكاملة ..توفر الأمان والسلم الأهلي..ومن ثم الحيوية والقابلية للتطور الإيجابي.
وذكرنا أن التوافق بين المعايير ومستوى وعي وتطور المجتمع من العوامل التي لا بد من تقديرها لتحقيق المقصود.وضربنا مثلا كيف أن الاتجاهات ذات البعد الأيديولوجي-الإسلام مثلا- تسعى إلى توحيد المعايير ما استطاعت لإيجاد مناخ متجانس لحياة المجتمعات؛ يجنبها الهزات الناتجة عن الاختلافات الحادة في التصورات والمعتقدات والأعمال وإتباع الوسائل ..الخ.
ونلاحظ أن الأيديولوجية الماركسية أيضا اتبعت الأسلوب نفسه مع فارق جعله يعجز عن مواكبة الحياة طويلا..! هذا الفارق هو أن حالة بشرية بحتة حاولت أن تتجسد في موقع اله و حاولت أن تصبح مصدرا للمعايير الإنسانية كلها استنادا إلى تراكم في الخبرة البشرية التي زعم اختزانها بعبقرية مجموعة من صائغي الأيديولوجية،فتحول البشر –في حالتهم هذه- إلى ما يشبه حقلا للتجارب..! تطبق عليهم تصورات هؤلاء المنظرين المتنفذين.والتي ربما تخطئ وربما تصيب..!
وكان النظام الحاكم لديهم يتجه طبيعيا –بسبب سيكولوجيته- إلى نوع من الاستبداد أعلنوا هم عنها في تعبيرهم (دكتاتورية البروليتاريا المؤقتة)ولكنها تحولت إلى دكتاتورية الحكم نفسه الدائمة نتيجة تماهيهم مع آلية الحكم،واضطرارهم- للحفاظ عليه- أن يكثروا من الأسلوب ألاستخباراتي بحجج قوة العدو الخارجي،ثم الأعداء الداخليين المتحالفين مع العدو الداخلي..والخطر على (امن الدولة) وهم يعنون (أمن النظام الحاكم) وبالتالي امن المجموعة الحاكمة التي كان حكمهم أشبه بنوع من التوريث على أساس غير أبوي،وإنما أبوية حزبية، فالسلف يهيئ للخلف ويزكيه ويوفر الشروط له،وفي بعض الحالات أصبح التوريث من الأب إلى الابن أيضا ضمن المناخ الذي استلم فيه حزب واحد، الحكم. واعتمدت معاييره الخاصة التي كونها وفق حاجته، مضحيا بالقيم الطبيعية، وملغيا للمعايير المنطقية اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا… والتي ينبغي أن تسود في حياة المجتمعات –عادة- ما لم يكن التدخل البشري انقلابيا واستبداديا (حكم الحزب الواحد أو الشخص الواحد أو العائلة الواحدة..الخ)
لا نعني بما سبق تصوير الحكم المستند إلى الماركسية وكأنه لا تجربة مفيدة فيه،ولكننا نريد الإشارة إلى أنها كانت تجربة لم تأخذ مدى بشريا واسعا، لابتعادها عن الحالة الطبيعية للبشر من جهة(تجاهل الطبيعة البشرية ) ومن ثم طواعيتها للقائمين على الحكم بوسائل لا تعطي التقدير الصحيح لحرية الآخرين(الشعب) الذي كان ينظر إليهم كأدوات استغلال أكثر من كونهم فعاليات اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية…بسبب تجريدهم من خصائص الاستقلالية الحرية والفاعلية الشخصية..
إن المعايير الصحيحة هي التي تتكون عبر تراكم كمي ونوعي تاريخيا بمساهمة حرة وفعالة من مختلف شرائح المجتمع،ولا مانع بعدها من السعي لجدل معايير يساهم فيها النابغة، والمبدعون…، بشرط أن لا يتجاهلوا حق الآخرين-مهما كان مستواهم- في المساهمة في صياغة هذه المعايير التي يشتركون في ما ينتج عنها سلبا أو إيجابا.
أما إذا حاولنا الإجابة على السؤال الأخير من الحلقة السابقة وهو سبب إخفاق المسلمين على الرغم من الجهد الكبير في توحد المعايير ..فإن ذلك قد يتطلب حلقة ثالثة وربما أكثر من حلقة. ولكن باختصار شديد جدا يمكن القول أن اختزال العروبيين للإسلام في القومية العربية بحجة اللغة العربية قد حول الإسلام من دين كوني مطلق إلى مصدر ثقافة مجتزأة لتخدم الاتجاه القوموي العروبي الذي أصبح هو أيضا –كالماركسية – صياغة ؟أيديولوجية بشرية لم تحسن استيعاب العناصر الكونية الطبيعية التي أودعها الله في الإسلام .ولا غرابة فقد حاول العروبيون المزج بين الأيديولوجيا الماركسية والأيديولوجيا القومية بطريقة تركيبية تفتقر إلى المعايير المنطقية والموضوعية فكان مقتلها في ذلك،وكانت الإفرازات التي يدفع المسلمون ضريبتها اليوم عبر سمعة سيئة أهم معالمها الإرهاب.

ibneljezire@maktoob.com
http://www.grenc.com/show_article_main.cfm?id=6850