خطايا خفية تمزق انسجام الوجدان الاجتماعي

بين الفينة والفينة تشير الأنباء الى اختراق هناك او هناك. لقانون الحياة الأخلاقية اجتماعيا كاغتصاب امرأة، او اغتصاب أطفال، ترافق ذلك أحيانا سلوكيات جد مشينة كان تُقتل الضحايا، او يُفعل بها الأفاعيل . او يُقتل شاهد مرّ صدفة في مكان الجريمة، او ..ا.غير ذلك.
وطبعا هناك حالات مماثلة ولكنها لا تسمى اغتصابا، لأنها تمت برضاء الطرفين كالزنا واللّواط وغير ذلك. وهي جميعا مؤثرة سلبا على الوجدان الاجتماعي وصفاء ضميره.
فالمعلوم من الجميع ان الصورة الماثلة في ذهن المرء -أيا كان-هي الصورة المثالية للحياة في جميع أبعادها وأشكالها، وكان ذلك حالة فطرية طبيعية في الإنسان، فيما يبدو. وإن الخروج عن ذلك، تشويه الصورة المثالية. فيصيب الوجدان الاجتماعي –كما في كل جريمة –باضطراب لا تهدّئه إلا المحاسبة التي تأخذ أشكالا مختلفة –بحسب الثقافة الاجتماعية السائدة –ومنها الثقافة الأخلاقية والقانونية والدينية…-
وهنا لا بد من وقفة هادئة ومتأملة.
في المجتمع الغربي ينساقون الى المسؤولية الفردية بالدرجة الأولى. ولذا فالحساب هيّن غالبا –تحت عنوان الحرية – وأحيانا تحت عنوان الشفقة وحساسية الروح الإنسانية تجاه العقوبة المبالغ فيها –برأيهم-ولهذا فمهما فعل المرء لا ينبغي ان يُعدم مثلا. وكأن هذا الحق لا يشمل الضحية .!
في المجتمعات الأخرى –والشرقية خاصة –لا زالت النظرة الى العقوبة مشوبة بشوق شديد وطاغ الى الانتقام –غالبا في إطار العين بالعين والسن بالسن. -بالنسبة للمتدينين. ولكنها تتجاوز ذلك الى أفعال نفسية مبالغ فيها، كان يمثل بالمقتول، او يعاقب أهله وذووه بما لم يرتكبوه. او يختار الأهم مكانة في العائلة او القبيلة ليُقتل ثأرا بديلا عن ضحية لا ذنب له فيها.
وهكذا تتحول المحاسبة (العقوبة) الى تهدئة للنفس الهائجة بدلا من تنفيذ المضمون العقوباتي قانونيا –أخلاقيا ومدنيا ودينيا. – ومن هنا حوادث الثأر التي تكون بدائية غالبا في التطبيق. ونابعة من هيجان النفس –وللقيم الاجتماعية وثقافة المجتمع، تأثيرها في طبيعة الهيجان عادة-والسؤال الذي يمكن ان يثار هنا هو: كيف يتعامل المجتمع واقعيا مع هذه الخطايا المخفية؟ لأن هذه الخطايا تبدو، أو تظهرها وسائل الإعلام -وكأنها فردية بحتة-. أو كأنها محصورة في منطقتها فقط، او عابرة، او غير ذلك…!
في الحقيقة هذه الخطايا ذات تأثير بالغ في تكوين القيم الوجدانية والأخلاقية والدينية المدنية.. وتلعب دورا كبير الأهمية في صياغات هذه القيم. وبالتالي في صياغات المنظومة القيمية الاجتماعية بكل أبعادها، ولها تأثير بالغ في وضوح الرؤية لدى أبناء المجتمع ثقافيا، حول هذه القضايا وكيفية التصرف حيالها. وهذا يحد من إيجاد نظام في السلوك لدى المجتمع، يسهّل عليه التعامل مع المشكلات ومعالجتها، وحصرها في إطارها المنطقي والواقعي، والتقليل من شان آثارها السلبية على الوجدان الاجتماعي.
لا يمكننا ان ننسى مفهوما ذا صلة وثيقة بالفكرة وهو العدالة. فالغاية الأخلاقية من العقوبة عادة، هي تحقيق العدالة –كما يقال-فماذا نعني بتحقيق العدالة؟ الأجوبة عديدة، ذا نظرنا إليها نظريا فحسب. فالعدالة هي استعادة الحالة الطبيعية لما كان عليه المفقود، المهدور، التالف، المشوّه…الخ.
باختصار، إعادة الوضع إلى ما كان عليه. ولكن ذلك في حال القتل –مثلا-غير ممكن. فالاستعادة تصبح إعادة توازن إذا-“لسن بالسن، العين بالعين” وفي ذلك تهدئة للنفوس (تطهير لها من العداوة بعد الشعور بأنه فعل بخصمه ما فعل خصمه به، سواء بنفسه –وهو ما تفضله القيم القبلية –أو عن طريق الدولة -ولاية الأمر-كما يسمى إسلاميا.
وهنا يصبح الأمر عمليا –يتجاوز النظري الى ما يحدث في الواقع.
وربما كان من الغايات أيضا، تهدئة الثورة النفسية والهياج الوجداني في المجتمع. فتحقيق العدالة بالمعنى المذكور يعيد الى النفوس هدوءها، والى الوجدان الجماعي او الاجتماعي توازنه واستقراره.
وهذا يطرح قضية الأنا والغير.
هل المشكلة تخصني مباشرة ؟! وتأثيراتها يتغلغل في نفسي وحدي؟!
أم أنها جماعية تخص المجتمع كله وتأثيراته اجتماعية –جماعية-؟!
ومن الطبيعي-إذا أحسنا التقدير-أن نرى في الفرد والمجتمع علاقة مبادلة التأثير –التفاعل-فلا يوجد مجتمع –بالمعنى الصحيح يتجاهل علاقته مع الأفراد، ولا يوجد فرد بمعزل عن المجتمع. وهي علاقة معقدة من ناحية الدراسات الاجتماعية. ولكنها بسيطة من ناحية الحياة المعاشة، يدركها الفرد حدْسا، ويدركها المجتمع حدْسا.
هذا ما كان قديما قبل ان يقتل قابيل هابيل-مهما اعتُبر ذلك-حقيقة دينية تاريخية عند المؤمنين، وربما أسطورة عند غيرهم. فالدلالة واحدة قتل أحدهم أخاه (او قتل إنسان إنسانا) وحدث شرخ في الوجدان الاجتماعي. بل وحيرة بالمفهوم الديني، وبمفهوم الثقافة الاجتماعية في أوقات متأخرة، وهذا ما عبّر عنه بيرون الشاعر الإنكليزي :
((وضع الشاعر بيرون الأبيات الآتية على لسان قابيل وقد رأى أخاه هابيل ميتا، ولم يكن قد رأى الموت قط:
أخي ما دهاك وكنت صباحا= قوي الفؤاد قوي البدن
على العشب ملقى فماذا عراك؟=أنوم؟ وما الوقت وقت الوسن
سكنت وامسك منك اللسان= وهل مات حي إذا ما سكن؟
ألا ما هلكت وإن كان في = شحوبك معنى يهيج الحزن)).
منذ ذلك اليوم الإنسان يعيش حالة قلق وحيرة وعدم استقرار..
ومنذ ذلك اليوم ، الإنسان يعايش الجريمة بأشكالها المختلفة: اضطهادا، قتلا، سلبا، ظلما…الخ.
ومنذ ذلك اليوم الوجدان الجماعي –الاجتماعي- يعيش حالة تمزق يبعث على الاضطراب، وبث روح الكراهية والعداوة ين البشر.!
ولأن الوعي البشري يزداد مع ازدياد التطور التكنولوجي، والقدرة التفاعلية بين البشر عبر القارات. فإن ممارسة الجريمة بأشكال مختلفة تتخذ صورا مختلفة. منها ما يمكن تسميتها بالجرائم الخافية –أو المخبوءة- والتي يتعامل الناس معها بطريقة فردية في حين أنها  ثقافة جماعية تجلياتها  في صيغ فردية.
فالإنسان مفهوم يدل على كل من تنطبق عليه صفة كونه “كائنا  حيا عاقلا حرا” ومن هنا فالقيمة الإنسانية مشتركة بين جميع من يُسمّون بشرا-إنسانا-
ولذا تقول الآية الكريمة: ” مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ …” المائدة- 32-
وإذا تجاوزنا هذا القول على اعتباره يمثل حالة دينية إيمانية قد يعترض البعض عليه، نعرج على الفيلسوف الألماني “كانط” صاحب كتاب “نقد العقل المجرد” وكتب كثيرة غيره فإنه يقول: “لو كانت سعادة البشرية مرهونة بقتل طفل بريء ما جاز ذلك”
وفي المنطق –الذي أسسه أرسطو -نلاحظ في صياغة مفهوم الإنسان-المعنى العام-نلاحظ ان كل من ينطبق عليه صفة الحيوان الناطق فهو إنسان،  وبالتالي فهم مشتركون في الخصائص الجوهرية التي لا يقوم الإنسان إلا بها.!
حصيلة القول:
إن الناس جميعا يشتركون في خصائص جوهرية ،مما يوحد القيمة المشتركة لديهم. ويجعل الإساءة إلى أي فرد بشري هو إساءة إلى النوع البشري، في صورة ما. ولعل التعبير المناسب لهذا المعنى هو “الكرامة البشرية”.
لذا –مثلا- عندما يشتم احدهم إنسانا فكأنه يشتم نفسه. وعندما يهين أحدهم إنسانا فكأنه يهين نفسه. وهذا –ربما –كان المقصود بالعبارة القائلة: “الكلام صفة المتكلم” أي الشاتم يشتم ذاته،
وفي اللغة الكردية مثاله-أو ما يشابهه- إذ يقال: “الشتيمة ترتد إلى صاحبه” خاصة إذا كان المشتوم لا يسمعها..
وقد انبرى الفلاسفة إلى الفصل بين الشخصية الإنسانية وبين أفعالها. فأجازوا نقد أفعالها ولكنهم لم يجيزوا اهانة الشخصية ذاتها.  وهذا الاتجاه يتبناه علم الأخلاق وطبيعة الحوار والنقاش والنقد.
فهل نستطيع أن نجعل من هذه الحال واقعا معاشا يجنبنا الكثير من المشاكل والصراعات التي لا ضرورة لها، لو ان البشر أحسنوا الفهم والممارسة على ضوء هذا الاتجاه…؟!.

منقول عن موقع الركن الأخضر  مع شيء من التصرف

http://www.grenc.com/show_article_main.cfm?id=14207