حوار مع رجل تقدمي جدا
ابن الجزيرة
منذ البدء هو كثير التقدم فيما يطرح..ولا أعلم بالطبع عن حقيقة تقدميته سوى أنه يعطي الحق لنفسه ليشتم الآخرين الذين يختلفون معه في النظرة إلى بعض قضايا الحياة – بغض النظر إذا كانت صائبة أو خلافها- فمعيار الصواب هنا..معيار إشكالي باعتباره يتناول قضية اجتماعية ذات بعد فلسفي بطبيعته.
في مثل هذه الأحوال لا يمكننا أن نصبّ جام غضبنا على الناس لأنهم يؤمنون بنمط معين من أنماط التفكير، وسلوك اجتماعي وأخلاقي يبنى عليه -باعتبار أن الأخلاق قضية خلافية (إشكالية أيضا). والاختلاف حول قضاياه شديد.
ويمكن للكاتب “التقدمي هذا ” أن يعود إلى كتاب الفلسفة للمرحلة الثانوية حتى لا نكلفه ما قد لا يستطيع البحث فيه من كتب أخرى، ليلاحظ بان نتاج جهود الفلاسفة قد حددت معايير السلوك الأخلاقي، وأنها ليست بهذه السهولة والحسم التي يعتمدها على أساس نفسي ذاتي، لينزل ضربا بالآخرين كما يقوده رغباته …
وإذا كان منبهرا بالقيم التي يراها تقدمية-مهما كان مصدرها. فله ذلك، وتلك مسؤوليته ويتحمل تبعات خياره …. أما أن يطلب من الآخرين يؤمنوا بها مثله، وغصبا عنهم، لأنها أعجبته، فذلك ما لا يحق له أن يفعله، وإن نهجه هذا أحد علامات الخلل في منهجه. هناك نماذج عديدة من الكلمات والعبارات غير الحوارية في مقاله هذا
“دحض هذه التخرصات ..”-” الدعوة المشبوهة..”- بمدى خطورة السم الذي دسه الكاتب في الدسم،..”- “هل الانحراف الذي يقصده هو:
– العهر والبغاء لا سمح الله ؟!.
– أم هو الفسق والفجور والعياذ بالله ؟!.
– أم هو الفوضى والفلتان الأخلاقي أعزكم الله ؟!.”
– “كم من الموبقات والمعاصي والزلات والسقطات اللاأخلاقية، حصلت من قبل من كن يرتدين الألبسة «المحتشمة» ويعشن خلف أسوار عالية ؟!.”
– “يطالب الكاتب في نهاية فرمانه بـ «ردع هذه الحالة»، وهي دعوة خطيرة جداً وصريحة، لممارسة أقسى أنواع العنف الجسدي والنفسي بحق أبنائنا وبناتنا، ممن يخرقون عادات وتقاليد الآباء والأجداد.. أن « تقليد الغرب » الذي يعتبره الكاتب جريمة أو نقيصة، أراه ويراه كثير من متنوري شعبنا الكردي، فضيلة سامية. إذ يتراءى لنا في نهاية نفق حياتنا الكوردية المظلم، بصيص أمل ألا وهو استعداد أبناء شعبنا الكوردي النفسي، وخاصة الجيل الشاب منهم، للإقتداء بالغرب في كافة مجالات الحياة”
– “لومي الشديد لهئية تحرير نشرة « يكيتي » لإيرادها المقالة ضمن رسالة كوباني، بينما كان الأحرى بهم – وهم خبراء في تميز الغث من الثمين – عدم نشر مثل هذه السفاسف أو نشرها مذيلة باسم كاتبها. وبذلك يتحقق الشعار المدون على الصفحة الأخيرة من كل عدد من النشرة المذكورة «المقالة المذيلة بأسماء أصحابها، لا تعبر بالضرورة عن رأي النشرة». ”
فليس ما قدمه لنا حوارا كما يدعو في آخر مقاله.
الحوار لا يتضمن هجوما على الآخرين.
الحوار لا يفرض مفاهيمه على الآخرين.
الذي يحرق المراحل لا يحاور، إنه “انقلابي ثوري” كما هي عادة الأيديولوجيات البائسة والتي تحاول مصادرة الحياة بكل أبعادها ضمن رؤية شخصية لعالم أو فيلسوف في الظاهر، ولكنه سياسي في الحقيقة، ويريد ضرب كل من يقف في وجه أيديولوجيته.
هكذا فعل ماركس وتلاميذه “الأمميون”.!
وهكذا فعلت مدرسة البعث القومية .!
وهكذا فعل المتعصبون والمتطرفون دينيا تحت مسميات مختلفة.!
وهكذا فعل من فعل من المتطرفين والمغرورين و…الخ.
الحوار له شروط.
وعلى المحاور أن يسمح للآخرين أن يعبروا عن أنفسهم بحسب فهمهم، وبحسب وعيهم، وبحسب عقيدتهم…الخ. ولكنه يحاول، ويفضل بطريقة غير مباشرة – أن يدحض ما يعتقد أنها أغلاط في نتاج ومفرزات تفكيرهم. لعلهم ينتبهون إلى تصحيحها. – مع وضع احتمال دائم بأنه ربما يكون أيضا مخطئا. أو واقعا في الغلط. فلا توجد حقائق مطلقة إذا خرجنا عن المعتقدات الدينية. (وهي ذاتها إيمانية بالدرجة الأولى).
الحقائق نسبية. وما أراه حقيقة، قد يراها لآخرون غير ذلك.
هذا ما نلاحظه لدى الفلاسفة، ولدى المفكرين، ولدى السياسيين، ولدى المتدينين في تفسير القرآن أو الحديث أو الإنجيل أو التوراة.
لا يشتم الذي يحاور، ولا يقلل من قيمة أفكار ومعتقدات الآخرين. هو يعبر عن عدم اقتناعه بها-وهذا خياره ومسؤوليته-. وعن عدم اعتناقها أيضا (لديه هذه المساحة من الحرية عليه أن لا يتجاوزها.). وقد قال فقهاء الفكر منذ القديم:((تنتهي حريتك عندما تبدأ حرية الآخرين)). أو ((تبدأ حريتك عندما تنتهي حرية الآخرين)) المدلول واحد في الحالتين.
المحاور لا يبدأ حواره بهذه الكلمات الموجعة:
((فوجئت بمدى الرجعية السوداء الكامنة فيها، وبمدى حقد وكراهية كاتبها لكل ما يخالف العادات والتقاليد البدوية، التي لا تزال مخلفاتها معششة في عقول وأذهان قلة قليلة من أبناء المنطقة. هؤلاء الذين يحاولون بذل قصارى جهودهم لوقف طوفان المتغيرات الحضارية المتقدمة إلى الأمام، والتي تشمل مختلف نواحي الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، بحيث لا يمكن فصلها عن بعضها مطلقاً.
لذا رأيت أنه من اللزام علي دحض هذه التخرصات غير المنصفة بحق جيلنا الشاب الواعد، والرد على تلك الدعوة المشبوهة لردع « هذه الحالة » التي أراها طبيعية في مجتمعنا الكردي، إذ مرت الشعوب التي سبقتنا أنفا في الحضارة بمثل هذه الحالة..))
الحوار لا يفترض سوء الظن بالآخرين. إنه يقدّر أنهم لهم رؤية – ربما – ناقصة أو كونها قلة علم – ربما-أو خطأ في صياغة المقدمات. أو هو تحت تأثير أفكار – ربما كانت خاطئة. أو… أو… المهم ليس متقصدا الغلط، وليس همه الإساءة. فإن تأكد كنتيجة للتحقيق العادل والنزيه … ذلك، عندئذ لا نحاوره وإنما نحاول تقديمه للمحاسبة والعقاب. ولذلك آليات متعارف عليها ومنها المحاكم والقضاء والمؤسسات المختصة والقانونية والشرعية…
لست في معرض الدفاع عن المقال موضوع المناقشة، ولكن اللهجة التي كتب بها هذا الكاتب التقدمي والذي يبدو واثقا من قيمه الإشكالية بطبيعتها أثارت في نفسي الرغبة في هذا النقاش الذي لم أكن جاهزا له-الآن على الأقل.
………………………………………………………………………………..
مقال قديم كتبته من وحي أسلوب أحدهم “التقدمي جدا” في ما يسميه حوارا مع كاتب لم تعجبه أفكاره