حول السياسة والثقافة مرة أخرى(1-2)

حول السياسة والثقافة مرة أخرى(1)
يكثر اللغط حول مفهومي الثقافة والسياسة كلما تجدد النشاط الاجتماعي-او المجتمعي-خاصة تحت تأثير محركات سياسية كالتغيرات الحاصلة في سوريا من خلال ثورة بدا رد فعل على ممارسة متجاوزة من رموز سلطوية في درعا، واستطالت كنتيجة لسوء التعامل السلطوي، وامتدت شهورا سلمية، لكن إمعان السلطات في القمع وتبني المعالجة الأمنية أضافت إليها أبعادا مختلفة، منها ما هي اختارته كثورة، ومنها ما تسرب إليها عبر بوابات مختلفة. منها نهج أمنى من السلطة ذاتها لغايات أمنية وتتعلق بتشويه سمعة الثورة، ومنها بقصد التبرير لممارسات أمنية لا مثيل لها في معظم بلدان العالم –بما فيها الأفريقية المتخلفة… ومنها تحيّن الدول ذات المصلحة –شرقا وغربا وإقليميا …الفرصة-او اضطرارها للمحافظة على مصالحها-للتدخل وفقا لهذه المصالح.
وكانت إحدى النتائج ما حصل في المنطقة الكوردية من سوريا…سمها كوردستان سوريا…سمها غرب كوردستان…سمها غربيّ كوردستان…في الوقت الراهن لا أحد يهتم بصحة المصطلح…فكل مصطلح إنما يعكس اتجاهات حزبية محددة-اللهم أجرنا من روح الحزبية والتعصب وسيلان لعاب من اجل تصورات ذات صلة بسلطان وجاه ومكاسب مختلفة أخرى…!
فهي روح همها الأول والأخير أجندات خاصة لا صلة لها بالقضية الكورية الكبرى –والحقيقة-إلا بقدر ما تحقق لها أجنداتها في صيغة كساء يستر عوراتها، او شعارات تضلل الذين تشتعل النار بقلوبهم من اجل الشعور بحضور قومي وطني طالما حرموا منه عقودا بل وقرونا…وهي تمارس منذ تأسيسها مجموعة ظواهر لا تطمئن أحدا سوى المنتفعين، او الذين اعتادوا التصفيق في كرنفالات يحضرها أشعب وبعض أشباهه. من هذه الظواهر استثمار سياسي بالمعنى السلبي لكل القيم الوطنية والقومية –وأحيانا بعيدا عن الخلق الاجتماعي المفترض. ممارسة كل الضغوطات المادية والمعنوية المتاحة على قدر ما تستطيع ماديا ومعنويا لتمرير مراحل أجنداتها بروح سلطوية متجاهلة مفاهيم الحرية والديمقراطية والوطنية والقومية والأخلاقية…الخ. -والتي تظل تتشدق بها كل لحظات الخطاب الشفهي او الكتابي …-إلا بالقدر الذي يخدم أجنداتها تلك.
وهنا تبدأ –أو تتمظهر –المشكلة…
كل جهد بشري –ومنه الجهد السياسي – يهدف –كما يعلم الجميع-إلى تحسين شروط الحياة ومن أهم هذه الشروط ضرورة إيجاد نظم للعلاقات تجعلها ضمن نهجا يستوعب التحرك-في اتجاهاته المختلفة-ليمون في خدمة التغير والتطور المفيد. وكنتيجة للأخطاء والمشكلات بل والكوارث –التي مرت بها البشرية تاريخيا، فقد اهتدى الغرب وربما منذ الثورة الفرنسية خاصة، إلى قيم ومفاهيم ونتائج–كانت موجودة لكنها هنا اتخذت بعدا جديدا ومتجددا وروحا ثورية وشعبية…عامة.
من هذه النتائج تأسيس أحزاب تجمع القوى المتقاربة في الرؤى والمصالح… وتمارس النضال من اجل تحقيق أهدافها.
هنا لنعد قليلا إلى البحث في التاريخ البشري…
كانت البحوث والدراسات والجهود المعرفية-بغض النظر عن التسميات المختلفة في تجليات معينة-علوم –فلسفة معارف…الخ. كانت المساحة الأولى –في صيغتها الممارسة ميدانيا كتجارب يومية يكتسبها الناس، أم كبحوث نظرية انتهت إلى ذروة سميت الفلسفة فيها. وفي هذا النوع من النشاط تكثف مفهوم المعرفة والذي تبلور الى الثقافة كمفهوم يعبر عن حيوية الجهود والأنشطة المجتمعية على كل المستويات لكنها تتجسد 0-بالدرجة الأولى –في القيم المعرفية المتمثلة والمتشربة بحيث ينعكس سلوكا سمي فيما بعد بالحضاري.
فالثقافة حالة مجتمعية إذا-لكنها متفاوتة وفقا للمستوى والتشكيل والعناصر والاتجاه. والتجسيد العملي سلوكيا في الحياة. وجوهر ذلك كله هو المعرفة وعندما تنتظم تصبح علما ولكن هناك دوما أبحاث او عناصر غير معروفة يجري البحث فيها وهذا يتطلب إعمالا في الفكر بحرية وتأمل وتعمق ينجم عنها ما عرف بالفلسفة كمفهوم يدل على الجهد البشري الأعمق والأكثر جدية لفهم وتفسير الكون وما فيه.
ولسنا في معرض البحث في تطورات هذا المفهوم لكن قد يكون مفيدا ان التعريف العام والراهن هو انه (تعمق في البحث وإعمال العقل بحرية مطلقة). ولذا لم يعد هناك استخدام لمفهوم “علم الفلسفة” بل يقال لها “دراسات فلسفية” غالبا. لن مفهوم “علم” مغلق” والفلسفة دوما تجاوز الطر الى ما هو خارجها. حتى تتأطر يعد اكتشاف مقوماتها العلمية.
خلاصة القول: الثقافة خرجت من رحم البحث في المعرفة واتسع مدلولها بحسب كل من يستخدمها ومن الزاوية التي ينطلق منها وهذه ليست المشكلة، لكن المشكلة هي في محاولات أيديولوجية تحتكر الصواب وتفرض مفاهيم وفهما خاصا يستوجب الصراع كحقيقة تاريخية –ومادية-فيحيل الكون إلى تقاتل يستهلك الجهود نحو تحسين شروط الحياة كما مفترض، ويصرفها في جهود تدمر وتحيل الحياة الى نمط يصبح القتل والتدمير والمختلف الحالات الناتجة عنها كنهج مشروع تحت عناوين معينة تظل بعض الاتجاهات الحزبية خاصة تستثمرها. ولا يغيب عن بال أحد ان روح الصراع تكمن في أوساط معينة من البشر قلما يمهما بناء البناء سواء نتيجة انحراف في الفهم او التربية او تحت ظروف العوز والحاجة او التخيلات الطامحة والطامعة.
……………….
حول الثقافة والسياسة مرة أخرى (2)
بذرة الثقافة كمفهوم ومعنى إذا هي المعرفة والبحث عن الأسرار التي تسهل تحسين فهم الحياة وشروط عيشها، وكانت نتيجة ذلك ظهور الفلسفة الباحثة عن الأسرار دوما، وأنتجت معرفة كانت أساسا لنشأة العلوم-او انفصالها عن الفلسفة حتى سميت الفلسفة بأنها أم العلوم، لكن هذه التسمية لم تعد تصلح لأن الفلسفة أصبحت في اتجاه مختلف عندما بقيت نهج تفكير بالدرجة الأولى –وبحثا بتعمق عن الخفايا التي لا تسيطر المعرفة-العلمية –عليها. او بعبارة أخرى لا تدخل في نطاق موضوعات العلوم المكتشفة المعروفة.
لذا اتجه الباحثون اتجاهات مستوحاة من واقع المجريات في محاولة تحديد معنى الثقافة…وأصبحت هذه التعريفات محكومة برؤى معرفية متشربة بالسياسة غالبا لا سيما لدى الذين اتخذوا المنحى الأيديولوجي في فهم الحياة، فأصبح كل شيء يفسر في نطاق ورؤية الأيديولوجيا والتي تحركها دوافع سياسية بالدرجة الأولى ومن أمثلتها الأساسية-الماركسية وما تناثر او تناسل منها…
ولأنني لا أقصد الدخول في بحث أكاديمي صرف بقدر ما أعني الإضاءة على بعض ملامح المفهوم فلن ادخل في تفصيلات أكثر ولكنني أحاول ان اعبر عن فهمي لمعنى الثقافة كنموذج من مثقفين ينقصهم الكثير من الشروط التي تجعلهم من مصادر المعرفة والثقافة بشكل عام. مع ذلك فالمحاولة قد تفيد في بعض إضاءة تحرك النقاش عن لم تعط معرفة واضحة وكافية. فالحوار بالمعنى العام –في الحصيلة-أهم شروط تكوين الثقافة وبلورة معناها وإنشاء مفهوم يحدد دلالتها.
الثقافة –كما أسلفنا-هي مجمل عناصر وعوامل حيوية المجتمع في مختلف أنشطته وفعالياته وإنتاجه واتجاه ومناهج حياته…الخ. فهي إذا عام…بينما السياسة هي الحالة الاجتماعية التي تمثل إدارة الوظائف العليا في المجتمع أساسا وان كانت كل أنواع الإدارة ذات بعد سياسي بمعنى ما قد يكون قليلا لكنه يمثل الجانب الفاعل في حسن الإدارة وهو المطلوب اجتماعيا لتحقيق التنظيم الذي يسهل العمل والإنتاج فالرابط بين السياسة والاقتصاد يأتي من هذا الجانب بالدرجة الأولى –الهدوء والأمان والتوعية والدفع باتجاه العمل وما ينتجه من مكاسب مختلفة.
على هذا فالسياسي ناتج ثقافة مجتمعه…وعندما يمارس دوره الإداري بفعالية فإنه يسهم في إغناء مجتمعه بكل ما يسهل حياته ويرفهها ومنها التقدم بعوامل تغني الثقافة باستمرار. ولعل الخطوة الأولى في هذا الإغناء هي التشجيع على التعلم والقراءة أولى خطواته ومن ثم المطالعة الحرة وتحويل ذلك –إضافة الى التدريبات اللازمة-الى إنتاج عملي –تطبيق المعرفة والعلوم على الواقع-تكنولوجيا…
من هنا نجد ان لا تعارض بين معنى ان تكون مثقفا وسياسيا…لكن المشكلة التي أنتجت هذه الإشكالية ربما في مجتمعنا خاصة هي ان الذين تبوؤوا مراكز في الحياة السياسية-والأصح القول –الحياة الحزبية- تبوؤها في ظروف انعدام الحالة الثقافية المتطورة في ظروف جهل وأمية سائدة…وعندما تغيرت الظروف وكثر عدد المثقفين-مجازا- فقد أصبحت الأمور تختلف ضمن الحياة الحزبية وأصبح الصراع على المراكز ظاهرة ارتبطت بشكل ما بالصراع بين القيادات الكهلة وطموحات شباب متعلم ومثقف –إذا فرقنا بين المفهومين-.وأنتج مناخا حادا من الصراع بين خوف القيادات وطموح الشباب إلى درجة إلغاء كل طرف للآخر –بغض النظر عن صواب وخطأ موقف هذا او ذاك- المهم ان التمييز بين الحالة الثقافية والحالة الحزبية-او السياسية- ارتكز الى ظروف صراع بين متشبث بالمركز وطامح-او طامع-الى المركز…فانحدرت العلاقات ضمن الحالة الحزبية الى مستوى انحراف في الفهم او تعمد في ذلك لغايات حزبية بحتة تخص القيادات فيها ولا صلة ولا مصلحة للشعب بها…