الاتجاه المعاكس

الاتجاه المعاكس
ابن الجزيرة
بالعودة إلى التاريخ بحثا وتحليلا، لا يجد المرء صعوبة في الكشف عن جوانب وقضايا موجعة في حياة البشرية ، بل سيجد كوارث ومآسي وفواجع لا يمكن وصفها ، ومع ذلك فإن نعمة النسيان في حياة الإنسان تجعله ينسى. وتتحول تلك الحادثات الماضية إلى مجرد ذكرى مؤلمة في الأذهان او صور وآثار تجدد الذكرى ..!
ولقد نجحت بعض الشعوب في أن تستقي منها عبرا ، فتتجاوزها عبر ترسيخ وعي يبني على أسس واقعية في التعامل مع الحياة بكل ما فيها من معطيات – مادية ومعنوية –وخاصة مها المعطيات المادية، بالنظر لما توفره من إمكانية تعامل واقعي وموضوعي ، يكون للعقل الدور الأساسي في فهمه واستثماره. ولعل ما نشهده اليوم في المجتمعات الغربية واليابان وبعض دول شرق آسيا والهند..الخ من الأمثلة الحية الدالة على صحة النهج الواقعي الذي انتهجته هذه المجتمعات.
من مفاهيم هذا النهج الأساسية: الوطن- المواطن- سيادة القانون- الأمر الواقع المدروس-تطور الخطوة اللاحقة على الخطوة السابقة-علمانية الحكم السياسي…
من هنا فقد أصبح التعامل مع الإنسان- في هذا النهج المجسد واقعيا في السلوك القانوني لأبنائه- هو انتماؤه إلى الوطن، بغض النظر عن قوميته ودينه ومذهبه..وغير ذلك من الخصائص المعنوية له.
وكانت الحرية هي الحق الطبيعي له في ممارسة كل ما يخصه عبر ممارسة طقوسه الاجتماعية والثقافية والدينية دون حسيب أو رقيب .فقط ما يمكن أن يحاسب عليه هو مدى التزامه بقوانين الوطن، وحتى هذه القوانين هي نتاج فعل ديمقراطي،تتغير بحسب الحركة السياسية وتغير المفاهيم والمصالح في فئاتها وهي الأحزاب. لذا فلا تجد غرابة في أن يكون رجل من أصل سوري رئيسا للأرجنتين مادام قد أصبح مواطنا فيها، وان تكون وزيرة بلجيكا من أصل مغربي حاورتها السيدة جيزال خوري في يوم 15/9/2003 في برنامجها المشهور” بالعربي ” عبر قناة ” العربية “. والأمثلة أكثر من أن تحصى ..!
لا يعني هذا أن الغرب ليس خاليا مما يطاله الحساب..! ولكن الحكم في كل ممارسة شاذة يعود إلى القانون فيه، وهذا- وللأسف-ما لم يصل إليه الشرق عامة والشرق العربي خاصة، على الرغم من كل تلك الشعارات والعبارات ذات البعد الديني الأخلاقي. وبتحليل السبب ربما نصل إلى نتيجة مؤداها ان الجوانب المعنوية والفكرية هي التي تكوّن عناصر بناء الشخصية.وما لم تستند هذه الجوانب إلى الواقع بكل مكوناته فستبقى تحت تأثير البعد الذاتي( النفسي) في الشخصية.مما يقلل من دور العقل وفعاليته فيفرز قناعات ومعتقدات تغيب فيها الواقعية و المصداقية أحيانا كثيرة- كما هو حاصل واقعيا- ويتحول الإيمان النقي – افتراضا- إلى مجرد نزوع نفسي(عاطفي) والأصح أن نقول (انفعالي). فيصبح مرتكزا لتقييمات وتحكيمات ما انزل الله بها من سلطان..! ويصبح الفهم الذاتي لنص ما أو موقف ما هو المرتكز لاتخاذ المواقف من الحياة بمجمل مكوناتها، ومنها الإنسان(الآخر) والذي تصبح النظرة إليه من قبل هؤلاء نظرة سكونية- تعطي صاحبها حقا دائما- متعالية وأحيانا متعجرفة. تؤسس لتبرير كل سلوك صادر عن أصحابها- شرعنة كل سلوك منها- ودون الاتكاء إلى مبادئ واضحة وثابتة.أو الأصح دون تفسيرات واضحة تمتلك المصداقية التي تستمد من التجربة بإيقاع عقلي منطقي يزكيها. ومن هذه الحالات: حالة التأسيس الفكري على أساس المفهوم القومي، والذي يسيطر على النهج العروبي وغيره من الحالات المماثلة. ولكن الجانب المميز للفكر العروبي هو انه صادر كل إنتاج الإسلام ليعده عربيا. وبذلك كون لنفسه قاعدة ينطلق منها في اعتبار (الأمة الإسلامية) هي عربية لأنها تقرأ القرآن بلغة عربية معبرة عن ذلك بالقول:(كل من تكلم العربية فهو عربي). وتعالى الشعور لدى أصحاب هذه النزعة لاعتبار أنفسهم المقصودون بقوله تعالى: ” كنتم خير امة أخرجت للناس ” بعد عزل هذا المقطع عما يتممه وهو: ” تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ” بل اتجه هؤلاء إلى ما يشبه تبني نزعة شوفينية..!
فالوطن عربي، وكل ما فيه عربي،لا يعترف لهم بتمايزهم القومي كالكرد والسريان والآثوريين..الخ.
والتاريخ الإسلامي هو تاريخ عربي ..وعلى ذلك فـ: طارق بن زياد البربري الأصل هو عربي..وصلاح الدين الأيوبي الكردي الأصل هو عربي..وهكذا فكل من اسلم عربي، وكل عربي-وفي أي موقع، وبين أي شعب- يبقى عربيا(فيليب العربي مثلا) فأسسوا –بذلك- لتربية نفسية انفعالية قلقة متعالية،بأمجاد غير واقعية، وأحلام أقرب إلى الأوهام، متجاهلين ظروفا واقعية طاغية ومخالفة لهذه الأحلام،فكانت المشكلة الكبرى..مشكلة تحول الحياة إلى شعارات عشعشت في نفوس جماهير بسيطة حالمة. فعزلتها عن التفكير الواقعي، وغلّبت في تفكيرها عناصر الخيال والأحلام، مما أنتج اتجاها عنصريا وشوفينيا، عبر عنه محمد طلب هلال خير تعبير..!(1)
حدث هذا في المجتمع العربي فيما كانت الامتدادات الأوسع في التفكير ترسخ لدى شعوب أخرى،كالاتجاه إلى وحدة القارة الأوروبية، متجاوزة القومية والمذهبية الدينية، او الاتجاه إلى منظمة (الآسيان) التي تضم دولا وشعوبا مختلفة، وكذلك(الوحدة الأفريقية)..الخ.
وكنتيجة لسيطرة الفكر العروبي هذا في الاعتقاد والسلوك والأحلام..فقد ذبحت الحرية على يديها، وزيّفت الديمقراطية لديها لتصبح الإدارة السياسية فيها مستبدة، تقمع كل ما يخالفها بروح عسكرية اصطلح على تسميتها ” الروح الأمنية ” ولذا –وبالرغم من كل معطيات التطور والحداثة، بل والحضارة في بلادها- فهي لا تزال تجتر مفاهيم تجاوزها الزمان والواقع بل والأخلاق أيضا.
نتمنى ان نعود جميعا إلى التاريخ الواقعي، والواقع الحقيقي،لنستمد منها مكونات التفكير والاعتقاد وضوابط السلوك..لعلنا نصبح-على الأقل- في الاتجاه الصحيح، بدلا من السير في الاتجاه المعاكس..!
ibneljezire@maktoob.com
1-محمد طلب هلال ضابط استخبارات سوري في الستينات من القرن الماضي،وكان برتبة ملازم أول في الأمن السياسي في الحسكة،وقد كتب دراسة تحت عنوان محافظة الجزيرة من النواحي القومية والسياسية والاجتماعية…وضع ضمنها مجموعة مقترحات شوفينية حاقدة ضد الكرد ،من نتائجها تطبيق الإحصاء الاستثنائي الجائر عام 1962،ومشروع الحزام العربي العنصري في منطقة سكن الأكراد في الجزيرة..إضافة إلى مجموعة قوانين استثنائية جائرة مخالفة للأعراف الدولية والقانونية والإنسانية..
…………………………………………………………………………………………………………..
نشر المقال في جريدة طريق الشعب(Riya Gel)-العدد/ 354 / تشرين الأول / ص 18- و التي يصدرها الحزب اليساري بقيادة السيد خير الدينمراد. (العام غير مدون ولكن يبدو أنه العام 2004)