التفكير الفلسفي
الأربعاء 3 تموز 2019
أساس للتعمق في المعرفة وبناء موقف في الحياة.
اختيار عنوان لموضوع في صيغة مقالة او بحث او كتاب … ليس سهلا، فالعنوان يلخص محتوى الموضوع في كلمات واضحة وقليلة ولها ايقاع من نوع ما –بحسب الذي يضعه –
بالطبع كل يختار عناوين بحسب المنطلقات التي انطلق منها في التأليف، والغايات التي يهدف اليها والجمهور الذي ينوي مخاطبته. ففي الموضوعات –والمنطلقات الجادة لها، والغايات الهادفة …غالبا ما يهتم المؤلف بعناوين تناسب الحالة. لكن بعضهم يختار مواضيع يمكن ان يقرأها شرائح معينة-اعمار معينة-لها سيكولوجية معينة … يضطر لكي يختار عنوانا يثير اهتمامها. وقد يراعي البعد التجاري لسلعة قل الطلب عليها “الكتاب” فيضع عناوين تستقطب اهتماما يضمن بيع كتابه …
مثل هذا في المؤلفات الفلسفية ليس سهلا أيضا، إلا إذا مزج بين مواضيع نفسية –من علوم النفس – ومزجها بالفلسفة او أدرجها تحت عنوان فلسفي…
تأثرت بالمنهج الفلسفي في التفكير منذ كنت في مرحلة متقدمة من العمر –فقد كان اخي يذكر على مسامعي انه يميل الى الفلسفة، فترسخت الفكرة في ذهني، او الميل في نفسي… وصرت أهتم بكل ما يتعلق بها وفقا لظروف فهمي. لكن الميل كبر في المرحلة الثانوية (دار المعلمين بعد البريفيه (الاعدادية العامة) أ نظام ربع سنوات) وقد درستها في الحسكة.
فكنت أستعير بمعدل كتاب اسبوعيا وقد يمتد الكتاب الكبير الى أسبوعين –وهذا هو الزمن المسموح به في الاحتفاظ بالكتاب المستعار.
لا زلت أحتفظ بذلك الدفتر الذي كنت أنقل اليه بعض ما انسخه من الكتاب المستعار، يتضمن عنوانه ومؤلفه ودار طباعته… وبعض فقرات أعجبتني –حينها -.
ومما اتذكر أنني استعرت كتابين بعنوان أرسطو أحدهما من تأليف أ.أ. طيلر، والثاني من تأليف عبد الرحمن بدوي … بل لا زلت أـذكر كم وجدت مشقة في قراءتهما دون استيعاب لما فيها إلا قليلا…مع ذلك لم ادعهما حتى اكملت قراءة كليهما. (وكان هذا منهجي في معظم ما كنت اقرأ دون فهم كاف).
ثم فيما بعد حصلت على الثانوية العامة –دراسة خاصة – إضافة الى الدراسة في الصف الثالث دار المعلمين العامة. وسجلت في قسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية (تسجيل مباشر) (ذكر التاريخ) بعد ان فشلت في التسجيل في قسم اللغة العربية بتأثير نصيحة مدرس العلوم (ابراهيم جدعان) من وحي واقعية الاجراء لأن فرص التدريس والعمل باللغة العربية أكثر. وكان من حسن حظي انني لم أقبل في اللغة العربية حينها فاتجهت الى الفلسفة. مع العلم إنني كنت اتقدم للامتحان لغاية واحدة هي التسجيل في الفلسفة. لذلك لم اهتم كثيرا بجمع العلامات باعتبار القبول في الفلسفة لا يتطلب ذلك-طبعا كان تفكير لا يخلو من خطأ ونوع من طفولة. – فما المانع ان اضع عيني على الفلسفة وفي نفس الوقت ادرس لتحصيل علامات عالية. لذلك ايضا قصة.
(تأثير الأستاذ “نعمان” مدرس اللغة الانكليزية في مدرسة التوجيهية –كما تسمى حينها في قامشلي –قبل الانتقال الى ثانوية عربستان (الجديدة) لدراسة الصف الثامن (الثاني الاعدادي) وكان مدرسنا ” رفيق” قيل انه كان في الجمارك ثم اختار التدريس، وأصبح مديرا للثانوية والأستاذ عبد الحليم عامودة نائبا للمدير ثم مديرا فيما بعد (وأصبح عضوا في مجلس الشعب حوالي السبعينات)
في المرحلة الاعدادية كان أحد المدرسين (نعمان) ينحاز الى طلاب (زملاء خاصة صبري قريو، ويوسف آحو. وقد التحق الأخير بدار المعلمين ايضا وقضى سنواته فيها بطريقة متوترة قد أشير الى شيء منها في وقت مناسب، اما الثاني فلم اعلم عنه شيئا سوى أنه أصبح بعثيا كما فعل يوسف. وأصبح غضوا في شعبة حزب البعث في قامشلي لفترة ولم اعد اعلم شيئا عنه.) لاعتبارات ذات طبيعة طائفية للأسف-فتجاهل الاهتمام بي، وزاد من الاهتمام بهم. فأحبط اهتمامي بالعلامات. مع ذلك فلا أحقد عليه، فهو قد ساهم في تعليمي وخلف تجربة جعلتني اجاهد أن لآ اكون في ذلك الموقف طيلة عملي في التعليم وحتى في ممارسات حياتي.
المهم:
دعونا نتابع قصتي مع الفلسفة.
سجلت في جامعة دمشق، ولم استطع لظروفي المالية والعائلية ان احضر الدوام –وكان النظام يسمح بذلك-فكنت ادرس في البيت الى جانب عملي “معلم ابتدائي ” واحضر خلال الامتحانات صيفا ,احيانا الدورة الثانية خريفا … وقد تأثر معدل علاماتي نتيجة لذلك –فقد كانت تحسم عشر درجات في الدورة الثانية…ولم اكترث لذلك…متأثرا بإحباط اشرت اليه كان في الاعدادي.ولم انتبه الا متأخرا لم اعد استطيع استدراك ذلك.
خلال دراسة الكتب والنوطات (كتب مطبوعة على الآلة الكاتبة) شعرت بالأفكار العظيمة للفلسفة، وكان الحديث عن الفلاسفة وأفكارهم يجعلني أزداد عجبا وتقديرا للفلاسفة والفلسفة لاسيما اولئك الذين اشتهروا وانتشروا من اليونان، “الثلاثي” المتسلسل سقراط وأفلاطون وأرسطو…وكنت أسمع بهم مذ كنت صغيرا عندما يلتم الملالي عند والدي رحمهم الله وحفظ الأحياء منهم. فقد كانوا يتدارسون منطق ارسطو كجزء من منهاج دراستهم تحت عنوان كوردي “كتيبي ريزي” أي الكتب المتسلسلة .. تبدأ بكتب سهلة ثم تنتهي الى كتب معقدة من حيث المضمون والمستوى. (السؤال عن الكتب المتسلسلة)
أعجبتني عبارة تقول: ” كل انسان فيلسوف الى حد ما ” فهي تشير إلى أن وجود العقل لدى الانسان هو أساس للميل الى التفلسف. فلا يوجد عاقل لا يتساءل عن ما يحيط به من ظواهر الكون، منذ الأرض والسماوات وما فيهما من عجائب وغرائب لم تفهم حقيقتها بعد، على الرغم من تناول الآلاف والملايين لها لفهمها على حقيقتها من باب الفضول المعرفي و اسباب اخرى.
ان تميز البشر عن الكائنات الأخرى بالعقل، وفّرت له القدرة على التفكير والنطق، وجعلته يتمتع بالحرية، فلا يمكن التنبؤ بما سيفعله، خلافا للحيوانات والنباتات التي يمكن التنبؤ بما ستفعل استنادا الى سياق السلوك الدائم / الغريزي، لها. أو بحسب الدكتور شوقي خليل “تقدير الهي” وقد اسمى بحثه في كتاب أسماء ” غريزة أم تقدير إلهي ؟!”
ولعل ذلك مصداقية قوله تعالى: ” ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم”. نقول “لعل” لإعطاء الأسلوب مرونة في البحث والتعبير، ونتجنب أحكاما مطلقة قد لا تقنع آخرين. كما نلتزم بأسلوب المرونة في التعاطي، ليكون منهجا لنا جميعا. فالقناعات والعقائد –بالنسبة لأصحابها – هي راسخة ، لكن التعبير عنها بمرونة يوفر مساحة طيبة للحوار مع الآخرين.
ولهذا أصل في الاسلام أيضا لاسيما في صلح الحديبية.
” وقد روى الإمام أحمد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بدأ يُمْلي شروط الصلح، و علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ يكتب، فأملاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
(بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل: أما الرحمن فو الله لا ندري ما هو ولكن اكتب باسمك اللهم، فأمر رسول الله-صلى الله عليه وسلم -عليًّا فكتبها كذلك، ثم أملى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، فقال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله، فوافق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال: والله ، إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب محمد بن عبد الله ). المصدر
هذا المنهج في المفاوضات بين طرفين مختلفين يمثل منهج مرونة وتفهم موقف الطرف الآخر للوصول الى نتيجة مشتركة. مع ان المسلمين كانوا في اوج قوة.
هنا يبدو اننا نزاوج بين قضيتين انسياقا مع الثقافة التي تشكل ثقافتنا. فإذا كنا مقتنعين بها، لكن ربما غيرنا لا يقتنع لذا لا بد من التمييز بين القضيتين” التدين” و”الفلسفة”.
فنحن –هنا –لا نعرض قناعتنا وما نعتقد به، وانما نعرض ما نفهمه عن الفلسفة كعلم ظهر في بداية التفكير الفلسفي للإنسان، وكان معظم الفلاسفة غير مسلمين…وقد وصلنا كثير عن فلاسفة الإغريق الأشهر ومن ثم الذين جاؤوا بعدهم ومنهم من تبنى منهجهم ونتائج فلسفتهم، ومنهم من انفصل بنتائج مستنبطة في قضايا؛ رأوها رؤية مختلفة… وان هذا المنهج المبني على حرية الفيلسوف في بحثه ونظامه الفكري الذي يسمى “مذهبا”. هو أحد اركان الفلسفة (الركن المهم) دائما. باعتبارها بحثا عن الحقائق (الحقيقة).
فالفيلسوف يوصف ب أنه يشبه القاضي الذي لا يتصور في ذهنه شيئا مسبقا، إنه يستمع الى الطرفين، وبعد قراءة ما يقدمه كل منهما، يستخلص النتيجة التي يحكم بها، بحسب معيار هو القانون.
الفيلسوف يتبع طريقة ديكارت في الشك بكل شيء ثم تحديد نقطة يقتنع بها، ويبني عليها نسقا فكريا متكاملا(منظومة) يتناول الملامح الرئيسة للحياة والكون.
ويتبع المنهج في تناول كل ما هو في الوجود بحسب ما يهديه اليه اجتهاده الذي ينضبط بمنهجية ومعايير متفق عليها “المنطق”. في الواقع (الفيزيقا) وما فوق –او خارج الواقع “ميتافيزيقا”
ومن الطبيعي كلما تقدم العلم وتأكدت قضاياه يقينيا من خلال التجريب…تتأثر الفلسفة بهذه النتائج، وهذا ما دفع الماركسية الى تبني فكرة خضوع الفلسفة للعلم باعتبار ان الفلسفة اجتهادات واستنتاجات ونظام عقلي / منطقي يستند الى تصور ارسطو عن ان العلم يوجد في العقل الانساني وان المنطق الصوري الذي يبنى على “توافق العقل مع ذاته” او ” عدم تناقض العقل مع ذاته” فيكشف العلوم داخل العقل. لكن كما سبقت الاشارة اليه، فقد لوحظ وجود (علم خارج العقل –في الواقع) ولا يمكن معرفته الا بالتجريب. فاعتمد مراحل: الملاحظة والفرضية والتجريب .., سبق ان شرحنا ذلك .
قد يكون مهما الاشارة الى الفارق بين الفلسفة (قراءات الفلاسفة للفيزيقا وما بعده) وبين تاريخ الفلسفة (عرض المحاولات الفلسفية) كتدوين لتاريخ نشوئها والمراحل والفلاسفة والأفكار فيها.( الاستفادة من كتاب تاريخ الفلسفة يوسف كرم)
وتبرز قضية هي: ان الذين اشتهروا في الفلسفة هم من ذوي المؤهلات الشخصية المتميزة –على صعيد عقلي تأملي وصبر على المتابعة واهتمام مثابر…الخ-. ويمكن ان نعد منهم الثلاثي الاغريقي الأشهر (سقراط –افلاطون-أرسطو) وهذا لا يقلل من ابتكارات وشروح وانساق فكرية/ فلسفية لها مكانتها المهمة في جانب من الفلسفة او في منظومتها الكلية المتراكمة خلال الزمان الطويل.
إن الفلسفة بعد إذ انفصلت العلوم عنها باتت في حال تختلف عما كانت عليه عندما كانت الفلسفة هي رؤية كلية لفهم الكون وتفسير ما فيه في جانبيه “الفيزيقي” و “الميتافيزيقي” أي الواقعي وما بعد الواقع. او فوقه. وقد يترجم الى “فيزيائي” و”ميتافيزيائي”.
فأصبح مهمتها التفكير فيما لا يستطيع العلم تفسيره، ومنهجا للتفكير التأملي العميق.
هل الفلسفة حكمة؟
هذا ما قاله سقراط (وبعضهم ينسبه الى فيثاغورث –ايضا – وهو فيلسوف اغريقي تميز في الرياضيات) وقد مر ذكر
أن الفلسفة كانت تشمل العلوم جميعا في الاغريق. قبل ان تنفصل علوم اصبحت ذات طبيعة خاصة (مستقلة) كالرياضيات وفيما بعد الفيزياء الرياضية…:
قال سقراط: “الفلسفة حب الحكمة”. او “عشق الحكمة”.
وقد عاش سقراط نمطا حياتيا فيه اخلاق وحكمة حتى اللحظات الأخيرة من حياته والتي انتهت بالحكم عليه بالإعدام (بشرب السم) وقصة إعدامه منشورة في مصادر عديدة نعتمد على كتاب “تمهيد في علم الاجتماع” للدكتور عبد الكريم اليافي المدرس بجامعة دمشق –رحمه الله-.
….. ذكر جانب يزيد الاضاءة
….
فمن الطبيعي أن التأمل في الكون بعمق وهدوء وتتبع المعرفة فيه للوصول الى الحقيقة… من خصائص الحكماء. وعندما ندرس شيئا عن سيرتهم (ارسطو مثلا) او (ابن سينا) او…لكن هذا لا يعني انهم-بالضرورة-انبياء …فممارسة الحياة لدى بعضهم فيها خصوصية ذات صلة بطبيعة قناعاته او بظروف توازن شخصيته او … وتستحق سيرتهم الاطلاع عليها من مصادر توفر الثقة بها.
سنحاول سرد نماذج مختصرة عن حياة بعض مشاهيرهم، لكن علينا أن نتذكر أن الحديث عن الماضي (التاريخ) قد لا يكون دقيقا تماما كما هو حال الواقع الذي يمكن رصده بوسائل فيها دقة…. فان عوامل كثيرة قد تلعب دورا في احتمال ان لا يوافق ما وصلَنا ونسرده على أنه مطابق تماما للواقع. ليس فقط فيمالا يتعلق بالفلاسفة، بل ما يتصل بمجمل سرد التاريخ؛ لتدخل عوامل مختلفة منها عدم شهود الحدث، منها ان الناقل قد لا يكون مؤهلا، ومنها أنه قد يتعمد تغيير سرد الخبر لغاية ما ايجابية ام سلبية (تزييفه)…او توظيفه لغاية معينة وربما سياسية أيضا… باختصار: التعامل مع التاريخ ينبغي ان يكون فيه حرص وحذر…
كيف بدأت الفلسفة؟
نظريتان تتنازعان الخلق والوجود:
1- نظرية دينية تقول: الكون له خالق هو “الله” وقد خلق كل شيء، ورتبه على الطريقة التي نراها.
2- نظرية تتبنى “نظرية” داروين التي تعتبر أن الوجود أزلي، وقد حصلت فيه تغيرات أدت الى ما عليه اليوم…
وبغض النظر عن الخوض في ترجيح -او تبني-أحدهما، فان ما هو مشترك بينهما أن التعمق في التفكير سببه الشوق الى معرفة المحيط “الفضول المعرفي ” سواء كفضول موجود في داخل النفس الانسانية، ام لتطويع عناصر المحيط لتلبية حاجات البشر مثل تدجين الحيوان –بحسب نظريات – او الحماية من الحيوانات الشرسة ببناء السكن، وابتكار ادوات يستعملها، في حاجاته المختلفة ربما الزراعية اولها …وهكذا.
ربما الفارق الجوهري ان النظرية الدينية ترى ان الله يوحي -او يلهم -بمعان وافكار في صورة ما تحرك التفكير والنشاط الانساني… بينما ترى النظرية الثانية “المادية”: ان الطبيعة (الواقع) ونموها ونمو ما فيها هو المحرك. ووصفها “بالتطور، وقد كفلت تغيرات انتهت الى انبثاق الحياة صدفة خلال تشكل خلية اولى ..ظلت تتطور الى ما بلغته اليوم.
أي نظرية هي الصائبة؟
تلك مسألة تتعلق بالشخص نفسه، وطبيعة قناعاته وايمانه فيرجح ما يراه أقرب اليها.
لكن ارسطو يقول فيما يخص نشوء الفلسفة بان اندهاش الانسان لموجودات الطبيعة “الأرض والسماء وما بينهما وما فيهما كالبروق والرعوم والجبال والأنهار والبحار…الخ.
دفع الانسان الى التفكير العميق “التأمل ” ومن ثم البحث الى المعرفة. ويلخص ذلك بقوله: “الدهشة اول باعث الى الفلسفة “.-المصدر
وإني لا أرى تعارضا بين الفكرة (وبين ما في الرؤية الدينية التي ترى في الخلق نقصا يتكامل باستمرار لتحسين حياة الانسان وتكيفه المستمر مع المستجدات).
على كل لسنا نملي قناعة، وانما نبدي ملاحظة قد يتقبلها من يتقبلها أو يرفضها من يرفضها، فلكل انسان خصوصيته في التشكيل الثقافي (المعرفي) يبني عليها مواقفه ورؤاه.
ربما هذا النزوع يغلب في الفلسفة، إذ يدع الانسان يفكر بنفسه واعتمادا على نفسه وما لديه من معارف وخبرات، ويسعى لزيادتها باستمرار ليحسن فهمه وتفاعله مع الحياة.
هنا قد تبرز مشكلة “الحياة والموت ” فكيف ينظر الانسان اليهما؟
من الطبيعي ان الجميع يعرف بان الموت نهاية طبيعية للحياة. لكن الاختلاف كائن في مستوى الادراك. هل يدرك المرء (او كل انسان) بعمق، هذه الحقيقة…؟
يجيب على هذا التساؤل أحد الحكماء –ربما الحسن البصري – قائلا: ما معناه: عندما نقول نموت جميعا، نرى أنفسنا خارج المعنى او الدائرة.
وهذا يعود الى طبيعة الادراك لدى الانسان. ويرى الوجوديون أن الحياة هي بين قوسي الولادة والموت .. ولذلك صلة برؤيتهم الفلسفية الكلية لقضية الوجود طبعا. (نظرية الوجوديين)
ثم يأتي سؤال ماذا بعد الموت؟
المتدينون يرون ان هناك حسابا وثوابا وعقابا …
لكن الماديين يرون ان الموت هو النهاية الأبدية للإنسان ولا يوجد لا حساب ولا ثواب ولا عقاب … هو فقط انتهاء طاقات الأعضاء في الجسد عن اداء وظائفها، نتيجة إنهاك وتآكل الخلايا المختلفة خلال الزمن، او خلل وعطل كما في أي آلة اخرى عندما تتعطل، ويتحول البدن الى تربة (يتحلل).
بما ان التدين قناعة تعتمد في كثير منه على النقل (والايمان الغيبي) والمنطق النظري … بالدرجة الأولى فإنه متمسك بما يعتقد ويؤمن به.
والمادي يعتمد على نظريات علمية لم تؤكدها التجربة (رؤية فلسفية منطقية استنتاجية وتصورية…) فانه متمسك بما يعتقد به ويؤمن به…
ولا يسهل ايجاد منهج علمي محقق للفصل بين الاتجاهين وترجيح أحدهما. فيبقى العامل الذاتي (الرؤية والقناعة والايمان الشخصي) حكما في ذلك
ما يمكن ملاحظته أن التغيير يطال كلا الطرفين فقد ينتقل المادي الى الايمان، وقد ينتقل مؤمن الى الالحاد…وهنا بعضهم يبنون ما هم عليه على بحوث جادة وعميقة وقناعة انتهى اليها، لكن الأغلبية تقلد ما تقلد (وهنا المشكلة متفاقمة) فهذا النموذج عادة قليل العلم وعاجز عن التعمق والبحث، فيختار سلوك من يثق به او ينبهر به او لأن في ذلك استجابة لرغبات فيه يراها تتحقق في هذه الجهة او تلك.
نسينا ان نقول أن الفلسفة لا يضع التدين في مقابل المادي (والملحد) بل يصف المذهب بـ”المثالية” في مقابل مذهب ” المادية” إذ الأشهر على مر التاريخ الفلسفي تقسيم يرى تفسيرين للحياة والوجود عموما هما المادية والمثالية.
فأما تسمية المادة فهي معروفة، لأنها ترجح ان الكون والوجود عموما هو مادي موجود منذ الأزل … اما المثالية فيقال أنها جاءت من “المثل الأفلاطونية” التي قال افلاطون بانها في السماء أصيلة، ولها ظلال في الدنيا (فهي مزيفة هنا) وثابتة وابدية هناك(السماء). ويمثل لها بتصور مبدع اسمه “كهف أفلاطون”. وملخص ما فيه: تصور كهف فيه كائنات حية عاقلة “بشر” وجوههم نحو آخر الكهف، وظهورهم نحو الباب (باب الكهف-) وتوقد نار عظيمة خارج الكهف يمرّ امامها الأحياء والأشياء، فتظهر صورها خيالات على الجدار الخلفي للكهف ويراها البشر وكأنها حقيقة وهي ليست سوى ظلال في واقعها لكنهم يعتادون عليها ويظنونها حقائق.
وهكذا حاول البشر منذ وعى الحياة وعاين ما فيه مما دعاه الى الاندهاش، أن يُعمل تفكيره بتأمل وعمق –ولا يزال -لمعرفة الكون وما فيه، وفهم طبيعتها وفاعليتها، وتطويعها لخدمة الانسان الذي ثبت أنه “حيوان ناطق” أي يتميز عن الكائنات الحيوانية الأخرى بما لديه من قوة عقل ونطق يوفر له الحيوية الفكرية والقدرة على قراءة المستقبل والتنبؤ بأحداث فيه. واستنادا إلى معطيات متوفرة يمكن للعقل ان يستثمرها وينظمها، ليبني عليها أحكاما.
وتكاملت-بعملية تراكمية-نتائج جهود الفلاسفة خلال التاريخ، فازدادت الأفكار غنى، ووُضعت في تناسق؛ شكّلت مذاهب تشير الى خلاصات الرؤى التي توفرت خلال هذا التاريخ، فكل فيلسوف يأتي يحاول الاطلاع على نتائج جهود الذين سبقوه، ليستثمرها في صياغة رؤيته ونتائج بحوثه طيلة عمره …ويزداد وعيا ب ومعرفة بالحقائق باستمرار… يساعده في ذلك تجدد الفهم والمعرفة، وتطوير العمل والابتكار، وتقدم التكنولوجيا (تطبيق نتائج العلوم على الواقع). وفي اللغة العربية قد يستخدمون تعبير ” التقنية” للدلالة على ذلك.
فالفلسفة –إذا هي الحالة، أو النشاط الذي يُمثّل القوة الفكرية في بحوثها الأكثر تأملا واستعصاء، ومحاولة تنظيم النتائج الاستخلاصات (وتنسيقها) في منظومة متكاملة ومتناسقة -كما أسلفنا-وتسمى “مذهب”.
ويتضمن المذهب رؤية متكاملة للكون والحياة فيها، لاسيما ما يتعلق بالإنسان وطبيعته وفاعلياته ومنطلقاته وغاياته … والتصور الأفضل لنمط الحياة التي يمكن أن يعيشها كفرد ضمن جماعة، والعلاقات بينه وبين أفرادها (أبنائها) وكجماعة مع جماعة (شعب مع شعب) على المستوى الاجتماعي والسياسي…الخ. وعلاقته مع الطبيعة وصورتها الأمثل …وذلك يقتضي معرفة كل شيء يتصل به وبالطبيعة وبالكون كله… ثم التعمق في معرفة توضح كل منظومة معرفية (علمية) وصلتها بالمنظومات الأخرى او اختلافها عنها وكيف يمكن استثمار ذلك…الخ.
الأسئلة كثيرة والاجابة عنها ليست يسيرة، وربما تنسيقها ضمن رؤية واحدة أيضا عسيرة.
فالأسئلة تتنازل كل القضايا المدهشة بالنسبة للإنسان منذ الوجود والخليقة والانسان وموقعه … وسلوكه وغاياته والسماء والنجوم والأفلاك والأرض واعاجيبها…
فكل ما حول الانسان يوحي بأسئلة منها السهلة ربما، ومنها المعقدة… ودوما يحاول ذو التفكير الحيوي والعميق ، والذي لديه ذخيرة معارف وعلوم وقوة ذاتية فيها فضول وطموح ونضج … ان يتفاعل معها في محاولة للإجابة عليها سواء أخفق ام أفلح. لكنه غالبا يبلغ حدودا او مستوى يستحق الشكر والتقدير… فالفارق كبير بين من اختار ان يعيش حياة ذات طبيعة حيوانية –يشترك فيها مع الحيوان – بإرضاء حاجات ورغبات الجسد من الشهوات والملذات (وقد ناقشها الفلاسفة طويلا). وبين من اختار ليقضي معظم العمر متأملا في الموجودات المتنوعة وفي محاولة للتعرف عليها وكشف أسرارها وتقديم تفسيرت صحيحة لغوامض أسرارها، فينفع البشر من حصيلة هذه الجهود ونتائجها … وان الانشغال بالمتع ليس فقط مشكلة في الانشغال عن التفكير –بل أيضا مشكلة في طبع التفكير بتأثيرات ذلك-. لذا طرح فلاسفة –وقد يكون سقراط-سؤالا ذا مغزى: هل يأكل الانسان ليعيش، أم يعيش ليأكل؟!
سؤال يلخص معظم معنى الوجود الانساني …!
قد نضطر للدخول في عرض تاريخي سريع لبعض الأفكار والفلاسفة الذين تنسب إليهم وسياقات …تجعل الفكرة أكثر وضوحا. من هنا سنعرج قليلا الى التاريخ-وهنا لا يد لنا في شيء، وانما هو سرد –او عرض-لما دوّنه مؤرخوا الفلسفة، قد يكون لنا دور في اختيار مؤرخ يبدو لنا أنه اكثر تعبيرا عن الحقيقة لأسباب منها: قربه الزمني والمكاني، ومنها خصوصية شخصيته وما عرف به من كفاءة ونزاهة ..وكل ذلك ليس سوى ترجيحات تمدّنا بها طبيعة معارفنا واجتهاداتنا ( وفي هذا المعنى يكمن الكثير من اشكالية التاريخ).
وهنا –ربما مشكلة تستحق الاشارة اليها هي “الترجمة” فالفلسفة التي وصلت إلينا بزخم هي الفلسفة اليونانية وتكاد تصبح مرجع الفلسفة الأساسي –ان لم تكن الوحيدة-وعن طريق الترجمة وكان المترجمون الأوائل من غير المسلمين. مما قد يجعل تسريبات -ربما-تتدخل لمقاصد ذات طبيعة خاصة، أو ربما سوء ترجمة –لسبب ما – كنقص في الكفاءة اللغوية مثلا، او رغبة في ترك تأثير معين ـ أو العجز عن ترجمة كلمات الى لغة لا توجد كلمات تمثل المعنى، فيضطر المترجم الى اجتهاد قد لا يفلح فيه…الخ.
لكن ماذا بشأن التفكير الفلسفي في الشرق؟ – الهند والصين وبلاد ما بين النهرين (ميزوبوتاميا) وما لدى الهنود الحمر في أمريكا أو …الخ.
باختصار: يبدو ان تاريخ الفلسفة لا يشتمل على كل المجهودات الفلسفية، وقد تأثر بالنزوع السياسي الذي يهيمن منذ نشوء الحياة السياسية والممالك والإمارات وكل أشكال الحكم في العالم، فقد رافق ذلك دوما نزاعات واطماع وطموحات … كانت تؤثر على مسار الفلسفة وطبيعتها وتدوينها وتاريخها …
لكننا مضطرون للتعامل مع بين أيدينا، وما يمكننا الاطلاع عليه وقراءته ونعتبره يمثل المتاح من التاريخ الذي يخص الفلسفة. وعلى الرغم من اهمية ان نتعامل مع حقائق
فإن ما هو ميسّر يمثل جزءا كبيرا منه تواضع الناس عليه. وتعاملوا –ويتعاملون-معه كذلك. نحن لسنا باحثين محققين، فقط نحاول ان نستعرض اهم ما عرفناه من أفكار فلسفية –بالدرجة الأولى –وفي هذا السياق لا بد من التطرق الى بعض تاريخها أيضا.
والمهم ان ننجح في اعطاء فكرة عن الفلسفة كعلم واهم المفاهيم (الرئيسة) التي تمثلها، ومحطات تاريخية هامة فيها. ونخص الشباب بذلك أساسا، ليكوّنوا فكرة تسمح بفهم عام لها.
أما الذين يودون المزيد فدونهم الكليات التي تدرسها، او المراجع التي تزيدهم علما بها.
فالدراسة المنظمة –والتي توصف غالبا بالأكاديمية-هي الكفيلة بتحصيل مجز للمعرفة بالفلسفة وما يتصل بها. وبالمناسبة “الأكاديمية ” تعود إلى الاغريق –وبالتحديد حديقة كان أفلاطون يدرس فيها الفلسفة لتلاميذه…-و منهم أرسطو-.
وهكذا كان التعليم في ازمنة سابقة …وامتد اسلوب التعليم كذلك، حتى في الفترة العباسية، لكن مدرسة النظامية. وهي مدرسة بناها الوزير “النظام” (اسمه بالكامل) أحد أصدقاء ثلاثة مع “شيخ الجبل-الحسن بن الصباح” في قلعة آلموت (القريبة من السلمية (في سوريا) و…(وقد قتل على يد أحد أعوان الصباح). كما يجدر الحديث بان ابو حامد الغزالي كان أحد اساتذة المدرسة النظامية. ويعد فيلسوفا او على الأقل قارئا جيدا للفلسفة، وان كان هو نفسه اتجه الى التصوف كأساس ومنهج للمعرفة يذكر منهجه في كتابه ” المنقذ من الضلال” وقد ضرب ضربة قاصمة للفلاسفة في عصره لاسيما في كتابه “تهافت الفلاسفة” والذي رد عليه ابن رشد بكتاب عنوانه “تهافت التهافت”. وهذا السجال –او الحوار النقدي-ظاهرة رعاها النظام السياسي في فترات من العصر العباسي. لكن المأمون أساء الى هذا الجو بعد ان اعتنق المذهب المعتزلي وشارك في محنة “خلق القرآن”
الفلسفة اجتهادات من فلاسفة تميزوا بخصوصية قدرات عقلية وادراكية تعين على حسن الفهم والربط بين عناصر كانت تبدو منفصلة ضمن نسق يساعد على فهم أفضل وأعمق للكون والحياة والموجودات عموما بما فيها الانسان وما هو عليه من خصوصية التفكير والشعور.
لنعد الى بدايات الفلسفة في اليونان -والتي ستكون المحور في منهج العرض لدينا، وعند تقاطع أفكار مع فلسفات في شعوب –او مناطق جغرافية اخرى نعرض لها سريعا مع الاشارة الى المراجع –ان وجدت او كان لنا اطلاع عليها…
يقول يوسف كرم في كتابه تاريخ الفلسفة (وفي الموسوعة الفلسفية المختصر –جلال العشري ورفاقه) :
……………………………………………………………………………………………………………………..
ملاحظة : هذا الموضوع وجميع المواضيع المنشورة هنا بحاجة الى مراجعة وتصحيح وتنسيق ..وقد فرض علينا الظرف نقلها كما هي ريثما يتم معالجة أخطاء فيها لغة او افكارا او تنسيقا او تصنيفا …الخ. نرجو اخذ ذلك في الاعتبار .