سياحة في تكوينات مفاهيمية
محمد قاسم
كيف خلقنا؟ كيف وجد الكون؟كيف توزع الناس في الأمكنة وفي أي زمن؟!
ما الدليل على استحقاق هذه الجماعة أو تلك، هذه الأرض أو تلك..؟!
أسئلة تبدو مشروعة -ومحيّرة أيضا، ربما -.
دوما هناك “واقع” وهناك “أمر واقع” مصطلحان ابتكرهما العقل البشري كدلالة مفاهيمية تعبر عن حالات في الكون-الحياة-..
والمفهوم –كما نعلم- ابتكار عقلي –أو إنتاج فطري من العقل لتكوين البعد النظري في حياة الإنسان،تعبيرا عن الواقع، أو الوقائع، أو الأحداث..، وكلها مفاهيم نظرية تدل على ما هو موجود في الحياة تصوريا،أو تخيليا..،وبذلك يمكن للمرء أن يحدّث أخاه عن الواقع والوقائع والأحداث..؛ وهو جالس في منزله،بدلا من أن يضطر إلى أخذه إلى المواقع والأحداث لتعريفه بها.!
فمثلا يمكنه القول :لقد حدث حادث سير تهشمت نتيجتها السيارة وقتل فيها خمسة وجرح سبعة ..الخ. ودون أن يذهب إلى مكان الحادث، ويعاينه بنفسه ..!
هذه الحالة المفاهيمية سهلت على الناس تبادل الأفكار والتفاعل معا-بالتخاطب والتفاهم-.
وهذه المفاهيم ليست سوى “كلمات” لغوية، تدل على “معنى معين” يتجلى في الكلمة ،في مساحة محددة من “ذهن” الإنسان،وتخزنه في مساحة “الذاكرة” .يستجرها الإنسان كلما احتاج إليه..
فعندما نقول” واقع ” كمصطلح، نميزه عن المكونات الخيالية النظرية “المعاني”.
وعندما نقول “وقائع” نعبر بـ”كلمات” عن مجرياتٍ في الحياة، وكذلك عندما نقول “أحداث” فهو كذلك أيضا..!
وللتعمق في “المصطلح” ضرورة؛ بغية الوصول إلى “الفهم المشترك” للمنطوق المسموع-الحديث- ،والمكتوب المقروء-الكتابة-بشكل عام ، بل وللإشارات، والتعبيرات الفنية المختلفة – تشكيل- نحت- موسيقى- تمثيل-حركات- إيماءات- رموز.. الخ.
هذا الفهم الغائب –أحيانا – يولد ما يسمى “عادة سوء الفهم” وقد ينتج “سوء الفهم” مشكلات كبيرة بين البشر –أفرادا وجماعات..- بإيجاد حالة يغيب فيها الفهم المشترك، وقد يؤدي ذلك إلى اشتباكات كلامية أو -حتى- جسدية؛ بدءا بالأيادي.. وانتهاء بالمقذوفات النارية في جميع أشكا لها (الحروب المدمرة..).
لسنا في معرض تأليف قاموس للمفاهيم..فقد فعل السابقون-وبكفاءة- ذلك،ولا يزال اللاحقون -وبكفاءة- يفعلون ذلك باستمرار، وبحسب الحاجة..
والملفت للنظر..أن تحديد المفاهيم يحتاج الى صيغة لغوية واضحة المؤشرات، والمعبر عنها في اللغة بـ”كلمات” وفي المنطق بـ “مفاهيم”..ولا تتطابق الكلمات والمفاهيم ضرورة ..
-بمعنى آخر، ليس النحو والمنطق متطابقان تماما..على الرغم من التشارك في اعتماد-استخدام-الكلمات..!
فمثلا الكلمات في اللغة تنضبط بوظائفها،كالفاعل والمفعول به..والفعل.. والأحرف..ويحدد معناها “الجذر اللغوي” لها، ودلالتها عبر ذلك.
فمثلا : ب ط خ-في مختار الصحاح- -(البطيخ)و(البطيخة ) بكر أولهما و(أبطخ) القوم كثر عندهم البطيخ. و (المبطخة) بوزن(المتربة) موضع البطيخ…
وهكذا كل اشتقاقاتها من الجذر ب.ط.خ ولها صلة في المعنى به..
أما “المفهوم” المنطقي، فهو “تكوين تصوري” لـ”معنى ما” في كلمة واحدة،أو كلمتين،أو عدة كلمات.. ولنأخذ مثالا:
كلمة “مدرسة ” لفظ دال على معنى واحد يمكن التعبير عنه بالقول: (مكان تلقي العلوم والتعليم) أو (مكان للتعلم) فالكلمة الواحدة “مدرسة” مصطلح يعبر عن معنى واحد. ولو قلنا “مدرسة ابتدائية ” أو “مدرسة الرحمة الابتدائية”،أو “مدرسة الرحمة الابتدائية الكبيرة والمصنوعة من الحجر”… كلها تدل على معنى واحد، رغم تعدد الكلمات..لأنها جميعا تدل على معنى “مكان تلقي العلم” أو مكان التعلم” وفي هذه الحالة فكل هذه التعبيرات هي “مفاهيم”
ويتعامل المنطق معها على أنها مفاهيم ذات خاصتين: الشمول،والتضمن،فالتضمن هو الخاصة الأساسية للمفهوم.المدرسة مكان للتعلم،والشمول أن هذا المعنى ينطبق على جميع الحالات المشابهة .(مكان تلقي العلم ) شموله كل المدارس والمعاهد والجامعات بكل أنواعها وأشكالها وفي أي لغة أو مكان أو زمان.. وهذا يتحقق بالتجريد (تجريد خاصة معينة من بين الخواص الأخرى) فقد جردنا معنى-خاصة –مكان التعلم عن طبيعة البناء،ولونه،وكبره،ومكان وجوده،ولغة التعليم فيه..الخ.واعتمدنا فقط معنى “مكان التعلم” وعممنا الحالة على كل الحالات المشابهة كما قلنا.
ولذا فالمفاهيم –منطقيا –تخضع لعلاقات نسميها مجردة ..مثلا :
المدرسة جميلة،في اللغة تسمى مبتدأ وخبر.. ولكنها في المنطق تسمى( قضية أو حكما)
ويسمى المفهوم الأول(المدرسة)موضوعا،ويسمى المفهوم الثاني(محمولا).ألا تلاحظون أننا نتجه إلى التعامل مع المجردات..وهذا يتطلب منا (تصورا عقليا) لا تخيلا(تصورا) يستند إلى الواقع(الوقائع الموجودة في الواقع).
كل هذا الحديث غايته أن الكلمات تحتاج إلى تحديد دلالتها لتعطي المعنى الذي نريد ان نعبر عنه بالضبط،ويفهم الذي يقرؤها –أو يسمعها –في إطار الدلالة التي تشير إليها حتى يكون الفهم مشتركا بين الكاتب والقارئ،-أو المتكلم والسامع-فيقل سوء الفهم، ويسهل التعامل في التخاطب والتفاهم..ونحل –بذلك-مشكلات كثيرة في حياتنا البشرية..وربما ساعد ذلك على تحسين طبيعة التعامل،وشروطه..!!
……………………………………………………………………………………………………………..
………………………………………………………………………………………………………………
سيكولوجية الموقف
محمد قاسم
يغيب عن بالنا أحيانا، طبيعة التكوين النفسي للشخصية الإنسانية. ويفترض انها وحدة متكاملة ذات انسجام مفترض بين عناصرها. نصفها –او نسميها –الشخصية. لذا عرفها علماء النفس:
الشخصية هي الصورة المنظمة المتكاملة لشخص ما يشعر بتميزه عن الآخرين.
ما يحصل أن بعضهم يفتت الشخصية، وكأن عناصر تكوينها مستقلة عن بعضها.
فيجعل فهم الأشياء مبعثرة، ومن ثم تتضاءل روحية فهم الشخصية على أساس تكامل عناصرها تكامل الشخصية في قواها المختلفة ..بدلا من النظرة من خلال الجزئيات المكونة للشخصية..فيأتي الحكم-أو التحكيم ،بمعنى التقييم- ناقصا منحازا إلى الحالة النفسية للإنسان في اللحظة التي يطلق فيها الحكم أو يتخذ الموقف.
الموقف –تعريفا-هو
وهو يستند –عادة-إلى ما تبلور في النفس،وضمنا العقل-من رؤية لموضوع الموقف.وتأتي الخطوة التالية في تنفيذ الموقف وتحويله إلى سلوك عملي يجسد حركة الشخصية المتكاملة باتجاه الموضوع –أي موضوع-
ولكن الأشياء تبدأ –دوما- بمقدمات، يفترض أنها موضوعة وفق معايير منطقية مستندة إلى عوامل التجربة والخبرة ونتائجها-العلم- وتنتهي إلى نتائج يفترض أن المناخ المنطقي يرعاها حتى تأتي متوازنة ومنسجمة مع مستلزمات المقدمات ،وبالتالي ، التصورات المتوقعة…
ما المشكلة..؟
في الوسط البيئي الاجتماعي العربي –والشرقي- يبدو أن سيكولوجية تكونت عبر التاريخ الطويل -ربما منذ الخلافة الأموية -والتي غيرت مجرى أسلوب إدارة المجتمع بالمبايعة الحرة إلى مبايعة إجبارية حيث يقال أنه كان يجمع القوم في مكان معين – بشكل جماعي حينا وبشكل إفرادي حينا- ويضعهم تحت ظرف الإكراه لمبايعة ابنه من بعده..وهو غير مؤهل للخلافة-ولكنه ابتكر هذه الطريقة، وامن له المتسلقون من العلماء والسياسيين-الغطاء الملبس بغطاء الشرعية، ربما منذ ذلك التاريخ-إضافة إلى الطبيعة البدوية المتخلفة من جهة الوعي السياسي، وغلبة الطابع العشائري البدائي في مسارات التفكير والذهنية،-ساهم في تبلور هذه الذهنية والسيكولوجية ..والتي تمد الموقف بمعطياته الضرورية..وهذه هي المشكلة..
هذه المشكلة في التكوين، وبلورة السيكولوجية والذهنية..هي التي جعلت السياسة العربية تتحول من فعل مؤثر إلى مجرد منظومات كلامية وشعارات لا صلة بالواقع ،سواء من بعض العلماء الوعاظ النظريين أو المنظرين المعاصرين…وخاصة الكوادر المشبعة –تربية- بهذا الأسلوب من خريجي مدارس المنظمات الشعبية –الشعبوية- والذين قضوا عمرهم في ترديد هذه الشعارات دون معرفة بمحتواها ولا بنتائجها سوى أنها مطلوبة منهم واستساغوها عبر نموهم منذ سنوات الدراسة الأولى وانتهاء بالدراسات العليا..
والوجه الآخر في الأمر أن هذه الحالات تكرست كسيكولوجية عميقة ،ومكونات ذهنية متبلورة..ما ضيع أغلبية الطاقات الذهنية العربية وبعثرتها..وحولت الشخصية في أوطانها إلى مجرد:
-إما ببغاوات تردد ما يقال لها أو ما يطلب منها
-وإما متسلقات ومنافقات (وصوليات) همها فقط أن تتقرب من مراكز النفوذ ليستعين بها على تبوء موقع يمكنه السرقة والنهب للأموال العامة..وبعثرتها فيما لا ضرورة فيه –كالسكر والعربدة والاستهلاك غير الضروري..الخ.
– وإما محيّدون ولا مبالون همشوا -طوعا أو كرها- وبسياسة منظمة من أنظمة الحكم التي فلسفتها الأساسية –واستنادا إلى التشوه في التكوين النفسي والذهني – هي الوصول إلى هذه النتيجة..عزل الشعب عن السياسة ليستطيعوا التحكم. بمؤازرة جيش عرمرم من الأجهزة التي تسمى أمنية –وهي في واقعها قمعية للشعب-بل وقمعية لأفرادها المنتمين إليها –طوعا أو كرها –فيعيش أفرادها في رتبة متدنية بالنسبة لمسؤوليهم..ويمكن لكل إنسان إن يلاحظ ذلك من خلال التباين الكبير جدا في أسلوب ممارسة الوظيفة الأمنية،وفي أسلوب المعيشة –سكنا وطعاما ولباسا..وتجميعا للأموال…الخ-
هذه هي النتيجة –والنمط المعاش- التي وصل إليها الشعوب العربية خاصة تلك التي تصر أن توصف نفسها بالتقدمية ..والغريب أنهم فقط الذين يظلون يمدحون أنفسهم وشعاراتهم ولا ينتظرون من احد ذلك..وليحققوا ذلك اغتصبوا أجهزة الإعلام كلها ليضخوا باستمرار ما يريدون أن يلقنوه للناس..غير منتبهين إلى أن تطور العالم الرقمي فوّت عليهم هذا الأمر ..فلجؤوا إلى أسلوب جديد –أحسن تعبير عن سيكولوجيتهم وذهنيتهم- وهو استهلاك الأموال الضخمة-من المال العام- في تتبع المواقع الإلكترونية وكأنها ملك يمينهم.. في نفس الوقت الذي يتقاضى المتقاعد الجامعي فقط خمسة آلاف أو ستة آلاف –وهو مبلغ لا يكفي مصروف أربعة أفراد لمدة أسبوع فما بالك لأسرة عدد أفرادها ثمانية أو أكثر –مثلا..!
ومن المؤسف أن بعض الاتجاهات الحزبية الكردية قد تشربت هذه الروحية وتتعامل مع جماهيرها بنفس السلوكية المستندة إلى ذات السيكولوجية والذهنية،وربما بتغذية –مباشرة او غير مباشر –من أجهزة المن والسلطات المختلفة.
فمن جهة: التوجيه نحو الشعارات المثيرة للانفعال الشعبي،و من جهة : التشبث بالموقع الحزبي وبلورة صورة جاذبة له–عبر القتال من اجله – وبلورة الجاذبية له في سيكولوجية الآخرين..فيتحول النضال من اجل الحقوق إلى صراع من اجل المواقع..
…………………………………………………………………………………………………….
ملاحظة :
هذه المادة وغيرها ، المنقولة الى الموقع تحتاج اعادة نظر يرجى اخذ العلم .