من مشكلات الفكر المثالي

من مشكلات الفكر المثالي 1-3
لا أريد الدخول في قضية فلسفية-هنا- لكني فقط أريد تسليط الضوء قليلا على ما يعترض الفكر المثالي من بعض مشكلات..
في البدء لا بد أن يعرف القارئ أن الفكر المثالي يعني الفكر النموذجي الذي يرى في الأشياء كمالا نتجه إلى تحقيقه. أي يتصور أن للأشياء صورة نموذجية (كاملة ) لا نقص فيها…وهي –هنا-تصبح النموذج الذي ينبغي أن نسعى بلوغه..ونبسط ألفكرة بمثال مدرسي بسيط.
فلو أحضرنا تمثالا فيه كل المواصفات المطلوبة(صورة نموذجية) وطلبنا من تلاميذ أن يصنعوا على منواله..فان التمثال هنا هو (النموذج) والتلاميذ يسعون إلى صنع مثله..وطبعا منهم يقترب منه ومنهم من يكون بعيدا عنه…
في هذه الحالة نقيس نجاح وفشل ما يصنعه التلاميذ بالتمثال النموذج..ويصبح التمثال(معيارا) نحكم على أعمال التلاميذ قياسا إليه. وهذا هو معنى أن العلوم الثلاثة(علم الجمال-علم المنطق-علم الأخلاق)تسمى “علوما معيارية”.
أي فيها نموذج يقاس عليها الأعمال والسلوكيات الأخرى. ويمكن بمعنى تبسيطي أكثر أن نعتمد على مثال آخر أيضا مثلا:(سلم تصحيح أوراق الطلاب) فإننا نضع الأفكار الصحيحة (المثالية) ونقيس عليها ما كتبه الطلاب.فبمقدار ما يقتربون من المثال ترتفع درجاتهم. والذي تكون إجاباته تماما موافقة للمثال الأعلى (النموذج) يحصل على الدرجة الأعلى (الكاملة-أي النموذجية).
أما من أين جاءت تسمية “المثالية” فذلك أمر بسيط أيضا..وهو أن الفيلسوف اليوناني أفلاطون المشهور،كان يتصور أن الأشياء –كائنات حية أو جوامد..-لها صورة مثالية (نموذجية) في الأعلى(السماء) وهي الأصل.أما الأشياء-كائنات وجوامد- الموجودة في الأرض(الدنيا) فهي شبيه الأصل في السماء..لذا هي تكاد تكون ظلالا للنموذج الأصلي.
ومثل لذلك بوجود كهف-يسمى كهف أفلاطون- تصور-تخيلا طبعا- أن الأشياء موجود في الكهف،وظهرها باتجاه الباب(أي لا يرون من الباب) وأوقدت
نار عظيمة خارج الكهف،ووضعت الأشياء الأصلية بين النار وبين باب الكهف..فماذا يكون..؟
ستتشكل ظلال لهذه الأشياء الأصلية وترتسم على جدار الكهف المقابل للباب..
فكيف يراها المقيمون في الكهف-الذين ظهورهم باتجاه الباب،ووجوههم باتجاه الجدار المقابل للباب والذي ترتسم عليه ظلال الأشياء التي في الخارج بتأثير النور الذي كونت اشتعال النار العظيمة..؟!
بلا شك سيظنون ان هذه الظلال أصيلة..خلال زمن طويل من مشاهدتها والاعتياد على هذه المشاهدة.
هكذا نحن البشر اعتدنا أن نرى ما على الأرض من أشياء واعتدنا على رؤيتها تكرارا فظا أنها الأصل..بينما ليست أصلا وهي إلى زوال –الكائنات الحية تموت..والجامدات تتحلل وتتفسخ..-ولكن أصولها –نماذجها- في الأعلى –في السماء-تبقى دائمة وخالدة..!وسمى الأصل –هنا-بالمثال…من هنا جاءت كلمة “المثالية” أي الصورة الكاملة لأشياء.. وبالتالي فإن المثالية هي تصورات وأفكار ..
ويقابلها الواقعية-الأشياء كما هي موجودة في الواقع-في الكون.
ولذا فالفلسفات منها المثالية،ومنها المادية-اعتماد على معطيات الواقع المادية –الملموسة.
وفي حلقة قادمة نتحدث عن بعض مشكلات الفكر المثالي..ربما مشكلة محددة هي ما نريد.
……………………

من مشكلات الفكر المثالي 2-3
محمد قاسم
الفلسفات أو المذاهب الفلسفية كثيرة وربما أهمها الفلسفة المثالية التي ذكرناها سابقا والفلسفة المادية التي يقابلها-أو الفلسفة الواقعية-
والذي يهمنا –هنا- هو الفلسفة المثالية التي تعتمد على الأفكار باعتبارها مصدر المعرفة..
وفي المعجم الفلسفي المختصر-دار التقدم((المثالية” idealism”-توجه فلسفي مقابل للمادية،ينطلق من أولوية الروح،أو الوعي…)).
فبعض فلاسفة اليونان-ومنهم أرسطو- كانوا يعتقدون أن المعرفة في العقل وما على الإنسان سوى أن يتعرف-أو يكشف- على القوانين التي توصله إليها..لذلك بحث في هذه القوانين والتي اعتبرها قوانين للعقل،وهي قانون الهوية وعدم التناقض والثالث المرفوع والسببية والحتمية والغائية..
وكان بذلك، يضع الأساس لما يعرف بـ”المنطق الصوري” أو المنطق الأرسطي..
وفي الأديان شيء شبيه بهذا..باعتبار أن المعرفة الحقيقية متضمنة في الكتب السماوية والتي هي كتب منزلة من الله عبر الوحي..فالتعامل –هنا-لم يعد مع الواقع وإنما مع المعطيات الفكرية في المنطق وفي الكتب المنزلة..والفارق بين الفلسفة والوحي هو: أن الوحي من عند الله- فإذا آمنا به وبالموحى إليه-الرسول-فقد انتفى لدينا-عندئذ- احتمال الوقوع في الخطأ..!
بينما الفلسفة هي اجتهاد بشري قابل للوقوع في الخطأ..!
والحقيقة هي أن احتمال الوقوع في الخطأ وارد في الحالتين..لأن الحالتان فهم إنساني..والإنسان قابل للخطأ دائما..!
وعلى الرغم من الاختلاف بين الأديان والفلسفة فإنهما –في الفكر المثالي يلتقيان..
ويعني هذا أن المؤمنين بالدين وبالفكر المثالي يتأثرون بطبيعة الفكر المثالي هذا..
ولعل أهم ما ينجم عن ذلك :
أن أصحاب هذا الفكر يرون الأمور من زاوية الكمال..لذا نجدهم لا يقدرون الطبيعة الضعيفة للإنسان..وينسون أو يتجاهلون-بحسب الحالة ومستوى الوعي..- فكرة أن الإنسان”خلق ضعيفا” وانه معرض للوقوع في الخطأ “كل ابن آدم خطاء” حديث شريف.ويؤيد هذا، الواقع الذي يعيشه الإنسان، وطبيعة مؤهلاته.. ولعل لذلك حكمة في الخلق..هي أن يتعلم المرء من أخطائه.ويمر بالتجربة حتى تصقل خبراته ومعارفه..
وببعض مقارنة في الحياة..بين أصحاب الفكر المثالي..وأصحاب الفكر الواقعي.. نلاحظ أن النوع الأول يظل رهين الماضي تحت عناوين عديدة ومختلفة..ربما التراث..ربما الأحكام..ربما فكرة أن السلف لم يتركوا شيئا للخلف..أو القداسة الدينية..أو غير ذلك..
و المهم –هنا-هو النظرة المثالية ..والتي ترى الكمال في السلوك خاصة..مع ان الإنسان يكرر دائما”الكمال لله وحده” عندما يخطئ..وينسى أن يقول ذلك عندما يكون المخطئ غيره..!
فإذا كان أصحاب الفكر المثالي من المتدينين تصبح المسالة أعقد..لأنهم دوما يتكئون على الدين في إطلاق أحكامهم وان كانوا مخطئين في تفسيرهم…
فهم ينطلقون من اعتبار أن الوحي صادق-وهذا صحيح- ولكن المتعامل مع الوحي-الإنسان ،ماعدا الرسول- هو الذي فيه نقص في المقدرة والفهم..وهذا ما لا ينتبه إليه الكثيرون-أو يتجاهلونه لأسباب خاصة..ربما المصالح التي يظهر لهم أنهم يحققونها عبر هذا التجاهل-والأصح الاستثمار المنحرف لقضايا الدين..!
وفي الحلقة الثالثة نتناول المشكلة التي من اجلها تصدينا لهذا البحث..وهي تشكل ذهنية لا تقبل احتمال الخطأ ..!
…….

من مشكلات الفكر المثالي 3-3
محمد قاسم
لو أنني استطعت اختصار الحلقات الثلاثة في حلقة واحدة مكثفة لفعلت..لكني خشيت أن لا يفهم المقصود..وهذا قد يبرز مشكلة نحن في غنى عنها –خاصة من بعض المتدينين الين اعتادوا الفهم الأقرب للجمود .والتخندق خلف فكرة القداسة بفهمهم الخاص، وتعميمها على الآخرين بطريقتهم الخاصة أيضا..فكان لا بد من بعض مقدمات..!
وقد ذكرنا سابقا ان الفكر المثالي يهيمن لدى أتباع هذه الفلسفة وعلى بعض المتدينين –ربما الغالبية- مع احتمال الاختلاف حول بعض القضايا.بين الاتجاهين.
والمهم بالنسبة إلينا هو ظاهرة التصور المثالي لما تكون عليه الأمور –فكرا وسلوكا…-
أو بعبارة أخرى تصور الأشياء بصورة مثالية لا تتوافق مع الواقع المعاش.. وانعكاس ذلك على أسلوب التفكير وتقييم السلوك لدى الآخرين .وكأن الخطأ غير موجود في حياة الإنسان –أو لا ينبغي أن يوجد- وهنا المشكلة التي نود البحث فيها..وتحت عنوان:
ذهنية لا تقبل احتمال الخطأ..!
فمن البديهي أن الإنسان يتوجه إلى أن تكون أعماله مثالية-نموذجية-متكاملة- ما أمكن..أي في أفضل صورة ممكنة.. ولكن الواقع لا يستجيب تماما لهذا التصور لسببين على الأقل:
-إن تركيبة الإنسان مجبولة –خلقة- على وجود الخطأ في حياته..”كل ابن آدم خطاء”الحديث. كما تؤكد التجربة ذلك.
– اختلاف الفاعلية بين التفكير النظري-التصور-وبين تطبيقاته الواقعية. فالمسافة بين الأداء النظري وبين تحويله إلى واقع موجودة..
والمهم هنا أن لا يكون الفكر والعمل-التطبيق-في اتجاهين متعاكسين،
المهم لا يتناقضان. بل أن يكونا في اتجاه واحد، ونحاول أن نقرب الفجوة بينهما باستمرار..ونطمع في بعض الأحوال لان يتوافقا تماما- وان كان ذلك أملا ورجاءا فحسب –ربما-.
وما أريد أن أقول هنا:
إن الإنسان كائن عاقل، حيوي، متغير النمو، ومتحول في طبيعة تفكيره، وبحسب مستوى النمو العضوي في مراحل النمو الأولى، وحتى اكتمال الجملة العصبية –سن البلوغ مابين الخامسة عشرة والاثنين والعشرين عاما..!
ومن ثم بحسب مستوى تحصيل المعرفة النظرية، واكتساب الخبرة عبر التجربة التي يعيشها.
وفي هذه المراحل جميعا فإن الإنسان- دائما- قابل للوقوع في الخطأ.
وهذا لا يعيبه، بل العيب أن يكرر الخطأ نفسه، أو المشابه له؛ مع إمكانيات اختزان تجربة تحول دون الوقوع في الخطأ نفسه مرتين..ولعل هذا هو المعنى من الحديث الشريف”المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين”.
ولو راجعنا مناهج العمل لدى المجتمعات المتطورة؛ نلاحظ دوما حساب نسبة الخطأ في أي عمل..(نسبة الفشل)او (نسبة الخسارة المالية في المشاريع) وهكذا..
لكننا في مجتمعاتنا الشرقية عموما –المتخلفة- والمجتمع العربي منها..نلاحظ أن تصور وقوع الخطأ غير موجود عمليا، وان كان الاعتراف بوجوده نظريا موجود.. لذا فإن رد الفعل تجاه الخطأ دائما مبالغ فيه..ويتجاهل الطبيعة البشرية ومواطن الضعف فيها..أما لماذا..؟
فبتقديري..إن الأمر يعود إلى بعض مسائل منها ما يلي:
– إن الفكر المثالي مهيمن في ذهنية الشرقيين والمتدينين خصوصا بسبب طبيعة التدين المبنية على الإيمان بالغيبيات..وهنا فهو قد يقع ضحية إشكاليتين:
*- الأول: قد يؤمن بأشياء لا تكون حقيقية وصادقة نتيجة تضليل أو قصور في الذهن لأي سبب كان.ذاتي أو موضوعي-
*- الثاني: إن هذا النمط من التفكير يصبح عادة .والعادة تعلم الكسل (الاعتياد) أو الروتين في التفكير ..وهذا يعادي التجديد..أيا كانت النسبة.(هيمنة الماضي أو الروتين في التفكير.وربما هذه سمة التفكير في مجتمعاتنا..
*- اعتياد التصور المثالي يجعل المثالي يرى الأشياء في صورتها النموذجية دائما، ولهذا فلا يعجبه شيء،لأنه يرى ناقصا،ولا يتهاون في المحاسبة الشديدة لمن يقع في الخطأ –أفراد أسرته أو عماله وموظفيه..أو الناس عموما في أي ميدان..مما يوجد روحا دائمة للمحاسبة دون التنبه إلى انه أيضا واحد من هؤلاء الناس، ويخطئ كما يخطئون..ولذا فعليه تقدير الأمور بميزان واحد لنفسه ولغيره. وفي هذه الحال ،هذا يجعل في نظرته معقولية وموضوعية وإنتاجا..أكثر.
وبالطبع ،ليس سهلا،الوصول إلى تحقيق هذا السلوك في ذات الإنسان فكريا وعمليا . لأن التدرب على كيفية التفكير الموضوعي يحتاج إلى عملية تربوية تبدأ منذ الصغر..وتعزز مع مراحل النمو المختلفة.
وما يؤسف له أن هذه المتابعة غير متوفرة عمليا إلا ضمن حدود ضيقة اجتماعيا.
من هنا لا نملك سوى وسيلة واحدة هي مخاطبة العقول –على ما في ذلك من نقص – لافتقار الوسيلة إلى قوة الدفع النفسية –عواطف وانفعالات مهذبة تربويا-أي جعلها أكثر انسياقا إلى تقييمات العقل بتفاعل نشط.