سيرة أيام أو (كنت في أربيل) “فستفال جكرخوين”

سيرة أيام
أو (كنت في أربيل)
“فستفال جكرخوين”
محمد قاسم (يستكمل في وقت آخر)
اليوم هو الثلاثاء الموافق التاسع عشر من شهر شباط 2008.
الجو يوحي بالمطر. فالغيوم تتكاثف رويدا رويدا وتكاد تنذر بالمطر أو الثلج –ربما –لما يرافق ذلك من برودة تتسلل إلى الأجسام. في دمشق –بحسب ما علمنا – تساقط ثلج لا أدري قوة هطوله ولا غزارته.ولكنه هطل.
أفقت صباحا حوالي التاسعة ..أخذت حماما .. تناولت الفطور.ثم جلست إلى التلفاز أتسقط الأخبار التي تهيمن على عرض شاشاته..وربما كان خبر استقلال كوسوفو هو الأكثر انتشارا لما له من تداعيات –يبدو–أنها في العمق.فروسيا والدول المتعاطفة معها في عمقها العرقي ألسلافي، أو في سياساتها، ترفض الفكرة وتعتبرهh((غير مقبول وخطير)) بحسب الشريط الإخباري في قناة العربية.ولكن أمريكا وبريطانيا ودول أخرى رتبت لفتح سفارات لها في كوسوفو..!
وقد زارها “خافيير سولانا” كأول مسؤول غربي-كما عقدت حكومتها-كوسوفو- أول اجتماع لها بعد الاستقلال وسط احتفالات شعبية عارمة في الشوارع .
في الحقيقة،إن وجود أمريكا في رأس قائمة المؤيدين يعني أن كوسوفو-أو “كوسوفا” كما يحلو للكوسوفيين أن يسموها ، ولذلك دلالة سياسية طبعا- يعني أن كوسوفا قد نالت استقلالها –أرادت روسيا أم لم ترد-
فأمريكا –اليوم- هي التي تدير شؤون العالم عسكريا سياسيا واقتصاديا… –وأحيانا ثقافيا أيضا –كما أشار إلى ذلك “يفغيني بريماكوف” في مقابلة مع فضائية روسيا اليوم في 23/3/2008 -.
وربما كان الخبر الثاني –على الرغم من بساطته-يحتل المرتبة الثانية وهو خبر استقالة –بل تنحي –فيدل كاسترو- عن السلطة بعد حكم دام تسعة وأربعين عاما – عاصر تسعة رؤساء أمريكيين،منهم من دام حكمه أربع سنوات فقط(دورة واحدة) ومنهم من دام حكمه ثماني سنوات(دورتين) والمعروف بأنه لا يسمح بالترشح لأكثر من دورتين بموجب الدستور الأمريكي الذي يلتزم به الجميع واقعا.-
وفورا صرح الرئيس الأمريكي “جورج بوش” الابن : “استقالة كاسترو ينبغي أن تقود إلى مرحلة انتقالية ديمقراطية في كوبا” وصرح بذلك ناطقون غيره من الغرب منهم ساركوزي رئيس فرنسا.
وربما كان نجاح المعارضة الباكستانية في الانتخابات البرلمانية مؤشرا على انه الخبر المرشح ليكون في المرتبة الثالثة..وقد سارع رئيس باكستان “برفيز مشرف” إلى القول بأنه لن يستقيل مهما كانت النتائج..!
ولكل من هذه الأخبار وغيرها، دلالاتها السياسية والاجتماعية والفكرية والأخلاقية… والاقتصادية..الخ.
ومع ذلك فليس هذا ما أريد..!
الذي أريد قوله: إن هذا هو اليوم الثاني من وصولي إلى البيت .بعد غياب دام حوالي عشرة أيام..قضيت منها في “هولير” ستة أيام، وثلاثة في “تركيا” ضيفا على أقارب(باسا-هيتما-نسيبين)مرورا ب(شكفتي سبي و هزخ).
فقد دعيت إلى حضور “فستفال الشاعر جكرخوين” من قبل “وزارة الثقافة العراقية” –وبتنسيق مع وزارة الثقافة في إقليم كردستان- فكانت فرصة طيبة أن ازور تركيا والعراق وإقليم كردستان، خاصة وأن الفستفال برعاية وزارة الثقافة في إقليم كردستان وفي العراق..
وجدت في ذلك فرصة لأجدد بعض أيامي، بعد أن انحصرت في البيت سنوات طويلة لظروف مختلفة، ومنها مرض “احتشاء الدماغ” الذي يكاد يحصرني في البيت..لأني أخشى من انعكاسات بذل مجهودات قوية؛ ربما غير موافقة لمجرى شفائي من هذا المرض المزعج، والذي أودع شقي الأيمن بعض خدر يئست من الانتهاء منه..ولكنه –ولله الحمد- لم يؤثر كثيرا على حركتي وحياتي التي أكاد أعيشها بصورة طبيعية تقريبا..!
سارعت إلى ختم جوازي في السفارة العراقية في “دمشق” ولكن احتمال أن لا تتاح الفرصة –لسبب ما – في العبور من بوابة ” ربيعة” أو بوابة “نصيبين” وجه تفكيرنا نحو احتياط ختم الجواز من القنصلية التركية (دبل فيزا) أي العبور والعودة عبر تركيا(ترانزيت(. وكانت المدة المتاحة لنا لذلك 72 ساعة (فترة البقاء الرسمي في تركيا) للعبور إلى العراق،والعودة إلى سوريا ..
وقد صدق الحدس .فقد اخبر موظفو سوريا في بوابة العبور من نصيبين بان “الأتراك لا يوافقون على العبور..”.
وعندما سئل الموظف السوري في الجوازات عن ذلك قال:
“-هذه طبيعتهم، إنا نعاني من أسلوبهم هذا دائما..!”.
-فهل بوابة ربيعة مفتوحة ؟
قال: نعم. لقد سألناهم فقالوا إنها مفتوحة.
ولكني وجدتها –بعد الوصول إليها – غير عابرة لأن العراقيين لا يسمحون بذلك-ربما بسبب أحداث الموصل-حيث كان الجيش العراقي يحاول إجراء “عملية فرض القانون” فيها، بتطهيرها من المليشيات . أو ربما إن العراقيين يرون خوفا من احتمال مرور انتحاريين من هذه البوابة ..كما تزعم بعض الفضائيات-أو بعض المسؤولين العراقيين والأمريكان، باستمرار عن ذلك.
فكان لا بد من السؤال عن بوابة عبور أخرى ..وقد كانت بوابة “تل أبيض” الموازية لمدينة “أورقة” –الرها – في تركيا،هي الأنسب كما اتجه التقدير..
في صبيحة يوم (9 شباط 2008) كنت اجتاز بوابة “تل أبيض” الجديدة والجميلة ..ذات المناخ الذي يكاد يكون ربيعيا بهوائه الجميل وشمسه الساطعة..والأسلوب اللطيف الذي لمسته من موظفي البوابة السوريين ..والأتراك أيضا..!
ومما لمسته من الجوانب الايجابية أن الطرف السوري لم يعرقل العبور بالرغم من غياب احد الموظفين ..فقد أوكلوا الأمر لموظف آخر، لتسهيل الأمر،كما أن الطرف التركي –رغم أن اليوم كان عطلة رسمية – أرسل في طلب “المحاسبة” لتسهيل العبور بالنظر لإجراءات روتينية لا بد منها. وكان هذا مريحا، تمنيت أن تكون هذه الروحية دائمة، وفي كل الأماكن والدوائر.. سواء في داخل سورية أو خارجها. فذلك يشعر بالقيمة الإنسانية، ويريح النفوس، ويزرع بذور المودة بين الناس، وبينهم وبين المسؤولين ..أيضا..
إن شعور المواطن –في أي بلد كان – بأن الموظفين –كبارا وصغارا-يمارسون دورهم في خدمة قضايا شعوبهم ومواطنيهم ..يجعل هؤلاء المواطنين متحمسين دوما لاختيار من يتقدم لقيادة شؤون البلد منذ المجالس المحلية ومرورا بالبرلمانات وانتهاء برئاسة الجمهورية ..ولقد افلح الغرب –أوروبا وأمريكا وكندا…–في تكريس هذه القاعدة العملية والمفيدة والدافعة إلى التطور –وان كنا قد نرى في بعض ممارساتهم ما لا يوافق فلسفتنا في الحياة- بخلاف ما يجري في البلدان المتخلفة التي تخطو خطوة نحو الأمام، ولكنها تخطو خطوتين إلى الخلف –وللأسف الشديد..!
ولعل هذا هو السبب في ظروف التوتر والاضطراب المستمرة فيها، سياسيا-اقتصاديا-واجتماعيا-وكل ما ينتج عن ذلك. فلا النظام في راحة واطمئنان، ولا الشعب في راحة واستقرار..!!
المهم..!
بعد العبور مباشرة كانت سيارة ميكرو باص حديث-طلبها بعض موظفي تركيا بناء على رغبتنا-تقف أمام البوابة. وكان جمع من الذين يصرفون النقد إلى التركي أو الدولار يتنافسون للحصول على اختيارنا لهم لعملية صرف محتملة، فلا تنفع الليرة السورية في تعاملات تركيا. ركبتها-وبعض العابرين أيضا-لتوصلنا إلى “أورقة.
وفي الكراج التقينا احدى الشركات التي زعمت أنها ستقدم الرحلة من اجل الركاب المتجهين إلى مدينة “ماردين”.
وما لاحظته في هذا المقام أنا ركبنا سيارة ميكروباص. وقد ملئت المقاعد والممرات بالركاب والمحافظ-الحقائب-.
ترحمنا على خدمة النقل في بلادنا. فمن مدينة “ديرك” المعربة إلى “المالكية” نركب البولمان الحديث بمبلغ مريح، وركوب مريح، فيه بعض الخدمات التي لم نلمسها عبر هذه الرحلة. ولكن قيل لنا أن النقل في المدن الكبيرة تختلف. !
شعرنا بان المناطق التي لا تكون قريبة من الأنظمة-أو موالية لها-تبقى بلا خدمات في شرقنا غير العادل في التعامل. خاصة إذا كانت كردية. لكأن اتفاقا-مكتوبا أو غير مكتوب-يوجد بين الأنظمة التي تتقاسم كردستان، والقاسم المشترك هو الإبقاء على سكان هذه المناطق مهمشين..!
ولا أدري كيف تسوّغ ذهنية الذين يديرون شؤون هذه المناطق؛ هذه الخطوة الظالمة والمنافية لأبسط القيم الإنسانية التي تظل هذه الأنظمة تتشدق بها صباح مساء..!
ويبدو أن ظاهرة استثمار غربة المسافرين، وجهلهم بطبيعة أنظمة العمل، هي اتجاه سائد منذ القديم وفي كل مكان..!
هذا ما لاحظناه في تركيا وفي سوريا وفي أسواق أخرى شاهدناها في الفضائيات ..فكأن الإنسان منذ القديم تتغلب لديه نزعة المصالح المالية على مستلزمات أو مقتضيات القيم الإنسانية..
لم ينزلنا الميكروباص في الكراج، بل أنزلنا في مكتب آخر ليتقاضى عمولة لقاء ذلك-كما شعرنا-(عمليات تجارية استغلالية مألوفة في مثل هذه الحالات-حتى ضمن الوطن الواحد).
على كل لم يكن هذا همنا، بل كنا نريد الوصول باكرا إلى نقطة الحدود-“بوابة إبراهيم الخليل” –قبل أن يخيّم الليل. فتجاوزنا هذه الاعتبارات، وركبنا بولمانا –ظننا انه سيكون منظما، ولكنه كان أشبه بنظام باص قديم رغم كونه جديدا. طلب منا المعاون عدم التكلم بـ “الموبايل” في البولمان ولا أدرى السبب. سألت المرافق فأجاب في صيغة تهكم أو مداعبة-لم أتأكد-: يؤثر في الفرامل. كنا قد مررنا على مدينة اسمها “ويران شهر” غيّرت التسميات الكردية كلها إلى أسماء تركية!
. سبحان الله. !!
الأنظمة الحاكمة والمغتصبة لحقوق الشعوب تتشابه في النزعات والهواجس والإجراءات. !!
كلها تريد-وعبثا-طمس المعالم التاريخية للشعوب، ومناطق إقامتهم وسكناهم؛ لتغيير ديمغرافية المناطق المنكوبة باستعمارها. وهم يظنون أن ذلك سيخدم طول بقائهم…!
(والغريب أنها ذاتها تستنكر هذا السلوك من أنظمة أخرى في بلدان أخرى…!
لماذا هذه الازدواجية في نمط التفكير لدى غالبية الحكام وأتباعهم من السياسيين في بلدان الشرق –والعربي منه خاصة. ؟!)
في الحقيقة أنها انعكست سلبا على سمعة هذه الحاكميات “الأنظمة”، وثلم ادعائهم بالحضارة والمدنية، كما انعكست سلبا على العلاقة بينهم وبين الشعوب التي ابتليت بحاكميتهم لها. وهذا ما نلمسه واقعا في كل المناطق في العالم. وخاصة في كردستان المقسمة بموجب سايكس بيكو.
((كردستان مستعمرة دولية)) كما عنون الدكتور إسماعيل بيشكجي كتابه…!
وصلنا “ماردين” التي كانت تتكئ على سفح جبل، وكانت بيوتاتها تتدرج علوا. بحيث يصبح البيت فوق سطح البيت الثاني، وهذا فوق الثالث، وهكذا…!
كانت تعطي منظرا فريدا؛ وكأنها رتبت على شكل مدرجات مسرح…!
شاهدت شبيها بذلك في لبنان، وفي الجبال المختلفة منها جبل قاسيون في دمشق وفي بعض قرى كوردستان عندما زرتها عام 1972 لحضور المؤتمر الحزبي الأول (القيادة المرحلية) كما كانت تسمى قبل انعقاد المؤتمر…!
الملاحظ، أننا كلما اتجهنا نحو الشرق حيث يقطن الكرد. كانت الخدمات تقل.
في الطرقات، ونظافة الشوارع.” ونظام التعامل. حيث يأخذ أسلوبا شعبويا…!
ففي حين لم نشهد ورقة أو محرمة كلينكس في شوارع “أورفة” وهي بدورها تُرِّكت إلىakcakala (آكجقلا). وجدنا شوارع نصيبين تشابه شوارع ديرك وقامشلي وحسكة من حيث اتساخها.
مررنا بـ “نصيبين” ثم “جزيرة بوتان”-المعروفة في الأدبيات الإسلامية بـ “جزيرة ابن عمرو” هذه المدينة العريقة عراقة التاريخ، وأنجبت أبناء الأثير، “الملا الجزري” الذي أبدع في ديوان شعره المشروح باللغة العربية تحت عنوان: “العقد الجوهري “بحسب تسمية الملا احمد الزفنكي، مفتي قامشلي، والذي شرح الديوان الكردي بالعربية، في مطلع الخمسينات.
جزيرة بوتان هذه –عاصمة الأمراء البدرخانيين الذي سكوا النقود باسمهم باللغة الكردية في خطوة باتجاه إنشاء دولة كردستانية ولكن كثرة الجيش التركي(العثماني) غلبت الشجاعة- كما يقال- فانتصر عليهم، ونفى أبناء البدرخانيين الى كافة أصقاع العالم؛ ومنها: سوريا، حيث كان الأمير جلادت الذي عني باللغة الكردية، وابتكر –أو كيّف الأحرف اللاتينية مع منطوق الكلمات الكردية، لتصبح الأحرف المعتمدة في الكتابة باللغة الكردية في تركيا وفي سوريا، وتحاول أن تأخذ مكانها في كردستان العراق وفي إيران، لولا أنها تواجه بمقاومتين على الأقل:
الأولى – مقاومة الكرد المسلمين الذين يظنون أن ذلك سيؤثر على مستوى التدين الإسلامي في كردستان. وهو ظن لا يوافق الواقع، بدليل أن الباكستانيين والأفغان والترك والشعوب المختلفة لها لغاتها الخاصة، ومع ذلك فلم تمنعها من الإسلام وممارسة الشعائر الإسلامية وباللغة العربية عندما يلزم، وهذا اغناء اللغة العربية وليس إفقارا لها، خاصة وإن المسلمين جميعا يحرصون على تعلم اللغة العربية باعتبار أن القرآن نزل بها…!
والُثانية: مقاومة أصحاب اللهجة الصورانية، والذين هم -من جهة-يتعصبون للهجتهم ويريدونها –تعسفا –أن تسود في كردستان الكبرى-إذا جاز استخدام هذه التسمية-وهم لا يشكلون ثلث الكردستانيين. ومن جهة أخرى: يخشون أن اللهجة البهدينانية-أو الأصح البوطانية-تتكيف مع الأحرف اللاتينية أكثر من اللهجة الصورانية. والدافع من وراء ذلك فقط نفسي وسياسي-كما أقدر…!
وهذه (مشكلة ستتفاقم ما لم تعالج).
وقد كتبت حول الموضوع ومن ذلك مقال بعنوان: (مشكلة ستتفاقم ما لم تعالج)
كما كتبت مقالا هو رد على شخص اسمه رزكار
كما تناوله عدد من المهتمين بالشأن الثقافي واللغوي الكردي.
والمحطة الأخرى كانت “سلوبي” وكان وصولنا إلى هناك، حوالي التاسعة ليلا أو أكثر. وكان “الكراج” قد خلا من السيارات ماعدا سيارتي تاكسي –كما أظن-وقد التف حولنا أصحابها لمساومة حول نقلنا إلى “بوابة إبراهيم الخليل”
واتفقنا أخيرا على مبلغ 60,000 ستين ألف ليرة تركية للسيارة التي تقلنا إلى البوابة.. ولكن البوابة التركية لم تسهل دخولنا –للأسف-محتجة بحجج غير قانونية ولكنها كانت وسيلة ابتزاز. !! ومنها مثلا أن اليوم عطلة، ومنها أن عبارة على الجواز لدى إحدى المسافرات، تخالف العبارة الأساسية، فقد كتب في القنصلية التركية في حلب، على صفحة جواز السفر، بخط اليد “العراق” ولكن المكتوبة بالكمبيوتر كانت “إيران”-وهما كلمتان متشابهتان؛ يبدو أن الموظف قد أخطا في تدوينها، وعند بوابة “تل ابيض” أثير هذا التساؤل. ولكنهم اقتنعوا بأنه خطا كمبيوتري فأجازوا لها الدخول. إلا أن البوابة هنا-بوابة سلوبي للدخول إلى كردستان العراق؛ أصرت على اعتبارها مشكلة، وتطوع السائق–ظاهريا – لتسهيل المشكلة، ولكنه قال: ربما سنحتاج إلى بعض الرشا. فقلنا: لا بأس!
وبعد أخذ ورد، ودفع مبلغ طلبه، كانت الأمور على خير. فقد انتهى التباس كون اليوم هو عطلة، والتباس كون الجواز فيه خطا، والتباس كوننا ضيوفا على كوردستان. والتي لا يطيقون سماع اسمها. !!
لذا فلم ينس السائق أن يكرر القول: إذا سئلتم عن وجهتكم فقولوا: “أربيل” ولا تقولوا: “كوردستان. !!
في بوابة إبراهيم الخليل –جهة إقليم كردستان فقط -كان ثمة قاعة يجلس فيها المسافرون يتناولون كأسا من الشاي التي قدمت لهم ضيافة من المركز، ريثما ينتهي التدقيق في الجوازات، وعندما علموا بانا ضيوف على وزارة الثقافة فقد سهلوا الأمر كثيرا، ولم نشعر بوجودنا في بوابة عبور حدودية. وربما هذه طبيعتهم-وأرجو ذلك-مع الجميع أيضا…!
وهذه الظاهرة (وجود قاعة لجلوس المسافرين للاستراحة وضيافة الشاي، ريثما يتم تدقيق جوازاتهم هي ظاهرة اختصت بها بوابة إبراهيم الخليل. ولم نجد شبيها لها في بوابة سوريا ولا بوابة تركيا. !!
هل هي خطوة حضارية يفتقر إليها كل من تركيا وسوريا …؟ أم هي حالة دعائية من بوابة كوردستان. ؟!
في كل الأحوال الخطوة حضارية ومريحة للمسافرين. أيا كانت الدوافع والأسباب…!
كانت سيارتا تاكسي مرسلتان من وزارة الثقافة في كردستان، تنتظرنا لتقلنا إلى أربيل.
في الطريق إلى أربيل لم تسمح لنا ظروف الليل الذي حاصرنا بظلام لم يتح لنا التعرف على معالم المناطق التي كنا نجتازها، سوى ملامح باهتة من البيوت والمحلات على جانبي الطريق. وكنا بين الفينة والأخرى نشاهد ما يدل على قرية أو بلدة أو مدينة ..ولكنها لم تكن واضحة المعالم . خاصة إن الكهرباء لم تكن موجودة في بعضها بسب الانقطاع، وفي بعضها كانت قليلة الإضاءة، وكان السائق يعرفنا على أسماء بعضها ويصف لنا بعض المعالم الهامة. ولكن التعب والميل إلى النوم كان يغلب أجفاننا فلم نحصل على معلومات ذات قيمة سياحيا خلال هذا المشوار الطويل الذي امتد أكثر من أربع ساعات لتعرجات الطريق –كما قال السائق-ولكن المسافة الحقيقية–ربما يقصد خط النظر –ليست سوى زمن لا يزيد كثيرا عن ساعتين…!
وقفنا أمام فندق (آﭭـه شين) -avashin-ويعني فندق “الماء الأزرق” شعرنا بأنه فندق نظيف وجميل. ولكننا لم نحسن تصور معالمه تماما في ظل التعب، والميل إلى الاستراحة.
أعطانا كاتب الفندق مفتاح غرفة لكل واحد، وكانت الساعة تشير إلى الرابعة صباحا-لكنه عاد صباحا ليطلب منا أن ينام كل اثنين في غرفة واحدة. -بحسب تعليمات الجهة الرسمية –وهي وزارة الثقافة هنا – فاستقبلنا الطلب بسرور لأن ذلك يسلينا أكثر في حين لا يتغير من عوامل الخدمة شيء آخر…! ويبدو أن نوم الواحد وحيدا في غرفة خاصة بالسياسيين.
أويت إلى فراشي، كان التعب ينساب في جسمي هادئا ..!
ولكن النوم لساعات قليلة-بعد حمام-أزال عني التعب، لأركب سيارة خصصتها وزارة الثقافة للنازلين في الفندق الذي أقيم فيه –مثقفون من دول مختلفة-لم أتعرف عليهم سوى ملامح لا تغني، ولكنا كنا نتبادل بعض الأحاديث أثناء الطعام. أو في السيارة غير أن التحفظ كان يغلب الحديث بسبب الغربة –ربما-التي تسم معرفتهم ببعض.وربما تحّوطهم لاحتمال أن يكونوا مراقبين من استخبارات ما.محلية أو خارجية-وأحيانا فالحالة النفسية الخاصة تلعب دورا ما. فمثلا حاولت أن أتعرف على أحدهم وهو قادم من أوروبا (برويز جهاني) ولكني لم أجد منه ما يشجعني للاستمرار. واكتشفت فيما بعد بأنه شاعر ولغوي واثق من نفسه…! ومقيم في أوروبا.
كما أن رئيس بلدية “باطمان” التركية كان موجودا، ومعه بعض زملائه كانوا في مجموعة – خمّنت بان الطابع السياسي يغلب سلوكهم أكثر من الطابع الثقافي. فلم يكونوا يتفاعلون مع النازلين كثيرا –ولا أدرى لماذا. -كما تعرفت خلال ذلك على الكاتب (أرجن آري) والذي كانت له مداخلة في القاعة التي تحتضن جميع المدعوين والقادمين للاحتفال بالـفستـﭭال.
الفندق كان، مكونا من ثلاثة طوابق، سكنت غرفة في الطابق الثالث، كنت انتقل إليها بالأسانسير (المصعد الكهربائي) ولكني أحيانا أفضل الدرج كنوع من الرياضة، وهو الغالب.
شريكي في الغرفة كان السيد(خالص)كاتبا طيب القلب والمعشر، ولكنا كنا نختلف حول قضايا مختلفة منها سياسية ومنها سلوكية…وترافقنا حتى “جزيرة بوطان” ثم ودعنا بعضنا بعضا ليذهب كل إلى حيث يريد.
الغرفة كانت مزودة بمكيف وتلفزيون وهاتف وحمام في داخلها، إضافة إلى الخزانة والكومدينة ومرآة وبراد صغير يحتوي عددا من قناني مياه الشرب والكولا بأنواعه، وبعض الشوكولا والبسكويت والتشيبس. ومفروشة بالموكيت…!
في الحقيقة كل الفندق كان مفروشا بالموكيت. وكان الذين يديرونها عرب من بغداد –كما قيل لي-ولا أدرى إذا كان ذلك دقيقا. – أما لجهة أنهم عرب فكان أكيدا ولمست ذلك بنفسي وكانوا يتكلمون العربية وسحنتهم واضحة ..أما أنهم من بغداد فلم أتأكد من ذلك.
لم يكن لدي فضول من اجل تتبع ذلك. وكان المطعم تحت الفندق يبدو عليه أناقة جيدة.
نظام الطعام كان صباحا “خدمة ذاتية”. فالطعام المؤلف من مربى ولبن وبيض مسلوق وبعض أنواع المر تديلا والجبن الإفرنجي والشوربا وأنواع خفيفة من الطبخ إضافة إلى العصير والشاي والقهوة…الخ. ولكن في الغداء، كنا نُخدم فيه، إذ تقدم بطاقة تعريف-مانيفيست-بأنواع الأطعمة الموجودة، نختار منها ما نشاء، والكمية التي نريدها، إضافة إلى أنواع من الكولا ..والغريب أن المطعم لم يكن يتوفر فيه اللبن .وكذلك كانت الخدمة في المساء أيضا..!
في الحقيقة كانت الخدمة ممتازة، وكان الطعام نظيفا وأنيقا، ولكني لم أجد فيه النكهة التي نشعر بها في أطعمة سوريا عموما. لقد ظننت أن نظام الطعام في سوريا ربما كان أكثر تقدما من حيث النكهة على الأقل. !!
وأقترح على المسؤولين أن يستفيدوا من خبرة الطهاة السوريين لتحسين النكهة أكثر. في أطعمتهم التي كانت نظيفة ولكن نكهتها لم تكن بمستوى جمال عرضها ونظافتها أيضا.
وقد فعل قبلهم صاحب الدولة الدوستكية “نصر الدولة” ….في القرن…
كنت اذهب مع النازلين في الفندق -من ضيوف وزارة الثقافة-بـ”ميكروباص” مخصص لنقلنا إلى صالة المحاضرات والأنشطة الثقافية، والتي اقتصرت على حفل افتتاح-في اليوم الأول صباحا، ألقيت فيه كلمات من عدد من المتكلمين، منهم وزير الثقافة في إقليم كردستان السيد “فلك الدين كاكائي” والذي أبهرنا بتواضعه الجم ودماثة خلقه وسويته الثقافية الجديرة بالاحترام. وكنت أقارن –آليا في نفسي –بين هذا الوزير المتواضع والمثقف، وبين غيره ممن تقل ثقافتهم، ويفور تكابرهم، واصطناعهم وسائلَ التعالي على مواطنيهم ..!
بل ويفعل ذلك بعض الموظفين الصغار في الدوائر-لدينا-(تربيةٌ سيئة لا أدري متى سنتجاوزها..!).
ولأني كنت مرهقا فلم احضر نشاطات بعد الظهر. وذلك لأنام الفترة كلها تقريبا، فاسترحت من عناء سفر طويل، بدأ بالساعة الخامسة صباحا من القامشلي، وانتهى بالساعة الرابعة صباحا من اليوم التالي أمام الفندق-آﭭا شين.
وفي فترة المساء بقيت في الغرفة أتابع التلفزيون حتى موعد النوم الطبيعي لدي. حوالي الحادية عشرة أو أكثر قليلا.
وفي الأيام الثلاثة المقررة للفستيفال، كانت أعمال روتينية:
محاضرات تناولت –جميعا-جوانب في حياة “جكرخوين” الأدبية والشعرية والفكرية والسياسية والاجتماعية …الخ. شارك فيها عد من الكتاب والباحثون الكرد من أجزاء كردستان الأربعة. منهم ﭙرويز جهاني –إيران-رزو، علي شمدين-كوني رش، صالح حيدو. -سوريا-أرجن آري-تركيا-د.كاميران برواري، شوكت سندي-العراق.
وعرض فيلم وثائقي عن جكرخوين استمر ساعة، وباليه السليمانية. وفترة غنائية تمحورت حول قصائد جكرخوين. وقد كتب عن مجريات الفستيفال كل من خالص وباللغة العربية ورزو نشر باللغة الكردية في مواقع مختلفة منها مثلا موقع ولاتي مه.
في اليوم التالي كنت أنتظر إخبارا عن برنامج اليوم ولكن أحدا لم يخبرني بشيء وفيما بعد زعم الذي يشرف على البرنامج بأنه اتصل مع الفندق ولكني لم أجبه. في الواقع كنت خارج الغرفة لفترة –ربما يكون الاتصال في تلك الفترة-ولكني كنت في الفترة ذاتها في غرفة أحد النازلين فلو اتصل به مثلا. لعلمت بالأمر. وهذا لا يقلل من الأسلوب الأدبي الدبلوماسي الراقي في التعامل مع الضيوف كما لمست.
المهم إني قضيت يوما بطوله في الفندق كان يمكنني أن استفيد منه في التجول في المدينة أو السفر إلى مواقع أثرية أو ثقافية. (وقد كنت أتوقع أن برنامج الوزارة يتضمن شيئا من ذلك. ولكن البرنامج لم يتجاوز زيارة البرلمان ووزارة الثقافة وقبري المرحومين البارزاني الخالد وابنه إدريس الشهيد. لم تتح لي سوى زيارة القبرين وكانت ممتعة جدا أذكر أني كتبت عبارة قصيرة باللغة الكردية قلت فيها ما معناه: لقد كنت عظيما في قيادتك عندما كنت حيا، وستبقى عظيما ورمزا لأمتك. بعد موتك…! ألقى بعض الزوار كلمات منهم مثلا البروفسور نادر نادروف –واحمد حتو وعبد الله ملا علي… الخ
في مساء يوم الخميس أخبروني بان برنامج زيارة قبر المرحومين “البارزاني” ونجله “إدريس” يبدأ الساعة التاسعة صباحا. وفعلا أقلتني وبعض الضيوف الآخرين منهم البروفيسور الكردي الروسي “نادر نادروف” والبروفسور “احمد حتو” وبعض الوافدين من أوروبا منهم السيد “عبد الله ملا علي” وبعض أفراد من عائلة جكرخوين…!
وفي الطريق إلى “بارزان” لا حظنا طبيعة خلابة بجبالها التواءات والطريق عبرها، ووديانها الملتوية والمليئة أشجارا حينا وماءا حينا آخر، ومنها نهر الزاب الكبير والزاب الصغير الموازي –بحسب ما اخبرنا به بعضهم-واختلف حوله البعض ..المهم أن المنظر كان خلابا ومهيبا، ونحن نلتف حول أنفسنا في حركة فنية أبدع فيها المهندسون الذين شقوا هذه الطرقات، لنجد أنفسنا أحيانا تحت سفح جبل، وأحيانا فوق قمة جبل، أو نطل على وديان سحيقة .وفي منتصف الطريق وقفنا قليلا عند استراحة ريزان (أو برزان). والتي وقفنا فيها في طريق العودة أيضا لنتناول طعام شهيا من لحم السمك المشوي بمهارة ملفتة وبعض اللحم –شفقا مشوية –وبعض الدجاج مع سلطة ومنكهات. وخاصة خبز الصاج الرقيق والطري ..لم يلبث أن تصلب بملامسة الهواء له دون أن يقلل من نكهته اللذيذة..
عندما وصلنا إلى موقع قبري المرحومين الرمزين قوميا للكرد -البارزاني وإدريس-(إلى جانب الشهداء والرموز القوميين للكرد –القاضي، الحفيد، بيران…-) شدني الذهول إلى تواضع الموقع وبساطته.
قبران من تراب فقط. مزروع في طرفي كل منهما شاهدان من حجرين كبيرين قليلا، وحولهما جدار من حجر بطريقة اعتيادية، سماكته تكاد تبلغ نصف المتر، بارتفاع متر وبعض المتر لا غير..!
وكان بالقرب منهما دار متواضعة تضم صالونا وغرفا لاستقبال الزوار، وليس بعيدا كان عدد من التواليتات ذات طابع ريفي متواضع وبسيط.
يبدو أن مراسيم زيارة القبرين أيضا كانت ببساطة القبرين. فقد استقبلنا عدد قليل –ربما أربعة او خمسة منهم “الحاج عبد الله البارزاني” المسن، وذي الجسم الممتلئ، والبنية القوية رغم السنين الكثيرة التي اجتازها، وقيل إنه ابن أخي الخالد مصطفى البارزاني رحمه الله.
بعد بضع كلمات قصيرة ألقاها البعض منهم البروفيسور “نادر نادروف ” وعبد الله ملا علي. انتقلنا إلى الدار المجاورة حيث تناولنا كؤوسا من الشاي كان البخار يتصاعد منها دافئا في جو يغلب فيه البرودة فوق أرض عالية جبلية (بارزان) هذه التي قال فيها الجواهري:
بارزان يا قمما.
وظل خيالي يتصور ويتموج ويحتار حول بساطة هذه القبرين الذين يحويان بطلين قوميين كرديين ربما الأبرز منذ مطلع منتصف القرن العشرين بل أكيد أنهما الأبرز بطولة والأدوم تأثيرا في إيقاد ثُورة امتدت أربعة عشر عاما هي الثورة الأطول في نضال الشعب الكوردستاني.
ذكرتني هذه الحادثة بحادثة زيارة رسول كسرى للخليفة الثاني عمر الخطاب –ولكنه كان حيا –فسأل عنه، فقيل إنه نائم تحت فيء شجرة في المكان الفلاني. وفاجأ الرسول، خليفة أكبر دولة-في حينها-ينام وحيدا تحت فيء شجرة بملابس متواضعة لا تميزه عن غيره من مواطنيه. ولا حرس. ولا ابهة. او مظاهر فخامة يتقنها المسؤولون الصغار فما بالك بالكبار…!
فقال قولا ترجمه الشاعر حافظ إبراهيم إلى شعر له قيمته الأدبية ودوره في تخليد الحادثة ونشر قصتها بين الناس:
أمنت لما أقمت العدل بينهم=ونمت نوما قرير العين هانيها
ومما سمعته عن شخصيته-بارزاني-منذ كنت صغيرا انه أيضا كان متواضعا. ولم يكن يسمح لأحد أن ينهض عندما يدخل القاعة. ولكي يوفر على الناس أن يصافحوه كان يتعمد أن يتأخر في دخول الضيافة ليقوم هو بمصافحة كل زواره مهما كان مستواهم الاجتماعي. ومنهم فقراء كانوا يزورونه آملين منه عونا ما ماديا أو اجتماعيا…الخ. وهناك حكايات كثيرة عن تواضعه وشجاعته وكرمه. وحكمته…ذكر الصحافي الأمريكي “دانا آدم شمدت” الكثير منها في كتابه”((رحلة لى رجال شجعان في كردستان العراق)) في مطلع الستينات.
استأنفنا المسير في اتجاه العودة. ركبنا سياراتنا لنستقر في استراحة ريزان(أو برزان) لتناول الطعام. هذه الاستراحة المطلة على نهر الزاب الكبير-بحسب ما فهمت-وفي الجهة المقابلة كان جبل يركن على قمة فيه دار لابن الشيخ صابر البارزاني الذي أعدم صدام، أباه–كما قيل لي-وحوله حديقة ترتع فيه الحيوانات البرية من وعول وغزلان. وغيرها، ثم توقفنا في “شقلاوة” بعض الوقت. حيث تسوقنا فيها واشتريت شمسية وبعض الحلوى. كما اشترى البعض حاجات مختلفة منها المن والذي يسمى باللغة الكردية(gezo) ويبدو أنهم يتقنون صنعتها. وقد ضيفتنا بعضها فتاة سورية من عاموده تحمل الجنسية السويدية اسمها (نوفين حرسان) .ولها وظيفة في الحركة النسائية هناك كما فهمت.
هذه المدينة التي بدت صغيرة –بالنسبة لي على الأقل –ولكنها جميلة. حيث أنها تتكئ إلى منطقة تضريسيه جبلية تشكل منحدرات ومرتفعات شقت فيها شوارع، وشيدت على جانبيها دكاكين ومحلات تبدو جميلة ومتواضعة في الوقت نفسه ومملوءة غالبا…!
ذكرني أسلوب بنائها بما وجدته في لبنان ..هذه الطبيعة الجميلة الشاعرية ..تجعلك تفكر لو انك استطعت أن تمضي أياما في هذه المدينة الرائعة سائحا في وقت آخر –ربما يكون فصل الربيع هو الأفضل-.فقد حدثتنا الشاعرة “ديا جوان” عن رؤيتها لهذه المناظر ربيعا. ووصفها بأجمل التعابير جمالا. ولأول مرة عرفت أنها ابنة أخ الملا احمد كرتويني. المعروف بالملا احمد نامي. السياسي والشاعر الكردي المعروف.
وفي طريق العودة مررنا بمصيف صلاح الدين مرورا فقط، وقيل لنا هذا هو المصيف الذي تعقد فيه الجلسات المهمة سياسيا ..لم استطع تكوين صورة عنها لان المرور كان سريعا والوقت كان أقرب إلى العتمة.. !
أمام فندق “جار جرا” وقفت السيارة، كان الظلام يلف المكان لولا بعض كهرباء. ما إن وصلنا إلى الفندق حتى انقطع للحظات، ولكنها عادت مرة أخرى. كان هذا المشهد يتكرر أحيانا. في الفندق الذي كنت أقيم فيه. وعندما سألت عن السبب قيل بأن مدة تغذية الكهرباء الرسمية محدودة بساعات معينة ثم تنقطع؛ فتقلع مولدات –عامة وخاصة-العامة للحارات أو لجزء من المدينة، والخاصة لبيت أو مؤسسة محددة. ولذا فإن الفترة ما بين انقطاع وعودة الكهرباء تكون لحظات فقط.
قضيت بعض الوقت مع بعض الضيوف الذين تعرفت عليهم مثل الدكتور “نادروف” وآل جكرخوين -أبناءه وبناته-منهم كسرى وآزاد وروجين. ثم عدت إلى “آﭭا شين” لأنام منتظرا الصباح الذي سأغادر –بحلوله-إلى بوابة “ابر هيم خليل” لأجتاز الحدود إلى تركيا، حيث ينتظرني احد أقربائي ليقلني إلى” باسا” فـ”هيتما” و”شكفته سبي” و”هزخ” و”نصيبين أخيرا ..أنام فيها ليلتي لأكون في الحادية عشرة على بوابة عبور من نصيبين إلى القامشلي.
كانت هذه هي أول مرة أزور فيها أقربائي في هذه التجمعات –قرى ومدن-ولم تكن الفترة كافية للتعرف على الجميع. وقضاء وقت ممتع بينهم. المهم أنني حققت حلما كان يراودني منذ الطفولة عندما كانت الجدة تحدثني عن هذه المواقع وسكانها في تصوير جميل وجذاب ترك أثرا عميقا في نفسي، وزرع شوقا لـ”هيتما” لم يهدأ حتى زرتها و رأيتها. ويقال ان القرية قديمة ذكرها المؤرخ “عبد الرقيب يوسف “في بعض كتبه ربما “الدولة الدوستكية”.
ويقال أن أبناء عشيرة “الحاج سليمانية” يعودون في جذورهم إلى هذه القرية. وربما كانوا السكان الأصليين لها. وقد نزحوا نتيجة ظروف ما الى قرية تل شعير بموافقة من امير بوتان. ولهم في ذلك قصص ربما سيذكرها بعضهم. واما معلوماتي فهي مستقاة من المرحوم “علي أحمد بوزو”.
والحق أقول لم أجد عنتا في عبوري هذه المرة أيضا-بوابة نصيبين-قامشلي-فقد استلم الجندي التركي الذي يحرس البوابة جواز سفري ليعيدها إليّ بعد دقائق ربما عشرة ربما خمسة عشر. ثم يفتح الباب لأجتازه إلى مركز آخر طلبوا مني مبلغ 200 ليرة سورية وأعادوا إليّ الجواز، والتقاني موظفان آخران-كل على حدة -طلبا الجواز وأعاداه لي بسرعة. وفي البوابة السورية تسلم جوازي موظف في لباس عسكري ليسلمه إلى دائرة كتب في لوح على بابها “سوريا القادمون والمغادرون” ونظر الموظف في جوازي وسألني عن عنواني في البيت ورقم هاتفي ثم سلمني الجواز لأمشي وأنا أسحب حقيبتي على عجلات. وكدت أقطع البوابة عندما سمعت صوتا يطلب مني مراجعة أحد الموظفين المدنيين والذي طلب جوازي وسألني بهدوء: كنت في مؤتمر في أربيل؟
قلت: بل مهرجان ثقافي…!
تدارك الأمر وردد: نعم نعم مهرجان أربيل. ثم سألني:
-ماذا كان نشاطك؟
قلت: الاستماع.
قال: وماذا عن الصور…؟ هل صورت المهرجان؟ هل معك سيديه؟
قلت: لا
قال: هات الحقيبة -وكنت أتنكبها-ففتحها، ولم يجد شيئا فأعاد إغلاقها.
والحركة التي لفتت انتباهي، هي إني حاولت أن أغلق الحقيبة لكنه قال: أنا الذي فتحتها وأنا الذي يجب أن أغلقها. -ومثل هذه الحركات –على الرغم من كونها طبيعية إلا أننا لم نعتدها من سلطاتنا. فالوجه يكون –غالبا-كالحا، والتعامل يكون بلغة آمرة وصاخبة. فلفتت هذه الحركة انتباهي، وقدرت انه من جهاز أمنى –ربما لعله أمن الدولة-الذي يهتم بهذه الحالات،
أشعرتني هذه الملاحظة ببعض تقدير. وشعرت بان نغمة دبلوماسية تطبع هذا الموقف. وتمنيت أن يكون أسلوبا عاما ودائما-منهجا أصيلا-من موظفي بواباتنا، ومراكز العمل الرسمي ..مع المواطنين دون استثناء..
ولم لا ؟! ألا يحق لي أن احلم؟!!.
ثم طلب كاميرا فيديو كان معي وقال:
ما الذي صورته بهذا إذا ؟!
قلت: لي أقرباء في تركيا صورتهم وهم يسلمون ويتحدثون. فعاين ذلك بنفسه ثم ناولني الكاميرا والجواز بعد أن سجل معلومات عن عنواني والجواز وبنبرة هادئة قال:
تفضل -وهو يناولني جواز السفر.
ترى هل هذا الأسلوب دائم وطبيعي. ؟!
أم هو ربما شخصي. ؟!
لست أدري ولكني أتمنى أن يكون منهجا أصيلا.
ليت بلادنا تعاملت بهذه اللطافة مع مواطنيها وضيوفها أيضا كأسلوب أصيل واعتيادي بروح مدنية تعتمد حق المسافرين أيا كانوا. فالخاصة الحضارية في السلوك هي التي تعبر عن الشخصية الإنسانية والوطنية، وتزرع الثقة بين الغادين والرائحين…!
لقد لمحت تنويها على جدار بمراجعة الإدارة العامة للجمارك لمن يجد ما لا يسره ولكني لا أدرى هل هو شعار فحسب، -وهو المرجح-أ م هو سلوك أكيد. فالمشكلة في بلادنا أن الشعارات قلما تتطابق مع الواقع. وهذه تربية سيئة لا أدرى من أين اكتسبناها، أو ورثناها. وان كان لي رؤية وتحليل حول ذلك.
كان ذلك في يوم 18 شباط 2008 كما يشير ختم جواز السفر. “قادما القامشلي” وكانت المغادرة في 9 شباط 2008 “مغادرا تل أبيض”.
وفور انتهاء التحقيق معي سحبت حقيبتي ومشيت مجتازا الأبنية الخاصة بالبوابة إلى ساحة تقف فيها سيارات ما كدت أصل إليها حتى كانت سيارة بيكاب تقف إلى جانبي وسألني السائق –باللغة العربية-أين تريد الذهاب. ألقيت نفسي في السيارة وانا أتنفس الصعداء –بعد وضع الحقيبة في صندوقها. وقلت: إلى كراج البولمان…حيث كانت سيارة من شركة روژ تنتظر بعض الركاب فركبتها ..ومشت إلى ديرك التي كدت اقبل ترابها لما في قلبي من اعتلاج الشوق إليها…!
ياااه كم أنت جميلة “ديرك” وكم يبقى الوطن جميلا ومصدر راحة للنفس والروح. خاصة اذا تكرست فيه القيم النبيلة واحترام الإنسان والتعامل القانوني…!
ملاحظات
كل عمل أو كل أداء لا بد أن يخضع لنقد يظهر ما فيه من إيجابيات وما فيه من أخطاء أو سلبيات.
والنقد –كما ينبغي أن يعرفه الكل- عملية مركبة تتضمن الملاحظة والتحليل والترتيب والتصنيف والتقييم .وهذا يستدعي توفر معطيات منها:
الاطلاع على الموضوع المنقود كان يكون حاضرا أثناء وجوده أو ممارسته،أو عارفا مختصا بمضمونه،والطرق التي يجري النقد بموجبها والمعايير التي ينبغي أن تعتمد من اجل ذلك..
وينبغي أن يضيء النقد الجوانب الإيجابية والجوانب السلبية في الموضوع،كما ينبغي أن ينصب النقد على الموضوع لا على الشخص(صاحب الموضوع).
فالهدف من النقد هو تشخيص الأخطاء وتجاوزها،مفترضا حسن النية في القائم بالعمل وان لم يكن كذلك في الواقع.
يعبر عن هذا المعنى- بشكل ما- المقولة الإسلامية – ربما حديث-(ليس لنا إلا الظاهر،والله يتولى السرائر).
1- من المستحسن أن تقدر الوزارة الداعية، الظروف المالية للمدعوين،فغالبية المثقفين ممن يعانون من هذا الجانب..فلماذا لا ترسل إليهم بطاقة السفر بالطائرة وتسهل ظروف تنقلهم المالية منذ لحظة السفر؟.
3-كانت الترتيبات للفستفال في أربيل جيدا،وقد جهد القائمون على ذلك لإنجاحه.ولكن ذلك لا يمنع من أن بعض الثغرات كانت موجودة بتقديري-ولا ادري من المسؤول عنها-المهم أن يتلافى المعنيون هذه الثغرات في محطات قادمة.
أ‌- تخصيص جلسات لتعارف المدعوين على بعضهم بطريقة ما ،كان يقدم كل مدعو نفسه وطبيعة عمله الثقافي أو الفني أو السياسي..الخ. أو –على الأقل –يقرأ احدهم أسماء المدعوين في جلسة مخصصة لذلك،وموجز سريع عن نشاطاتهم، وبلدانهم ..الخ. أو إتاحة فرصة كافية-مبرمجة- من الوقت خارج فقرات العمل يتمكن المدعوون خلالها من القيام ببعض حركات مفيدة من اجل التعارف.. واعتبار ذلك جزءا من فقرات النشاط الفستفالي..ليضفي متعة التعارف وانسيابية التعامل خلال الفترة.
ب‌- يبدو أن الكرد –مثل غيرهم في الشرق الوسط- يميلون إلى تغليب الكم على حساب الكيف،لذا فقد كان عدد الذين كلفوا بقراءة أوراق لا يتناسب مع الوقت المعطى لهم ،مما جعل البعض –أو الجميع-يقع في مشكلة السرعة في القراءة، أو اقتطاف غير مبرمج له،أو تجاوز الوقت المخصص..رغم التنبيه المتكرر من المدير،مما انعكس سلبا على مضمون المواضيع وجاذبيتها،ومن ثم اهتمام الحضور بها رغم أهميتها المعرفية والثقافية.
ت‌- فقرات البرنامج اليومي كانت مطبوعة ولكن المدعو القادم من خارج الإقليم قد لا يعرف المدينة ولا المسؤولين المباشرين عن الفستفال ليراجعهم فيما استشكل عليه..أو ربما كان البعض ذا طبيعة خاصة –حياء مثلا –فلا يستطيع ملاحقة المعلومات التي يحتاجها ..الخ.
أليس الأفضل في هذه أن تكون بطاقة مطبوعة عليها كل الفقرات المحتملة للفستفال،بدءا من البرنامج اليومي للنشاطات،وانتهاء بحقوق وواجبات العضو المدعو،بحيث لا يحتاج إلى الاستفسار عن أي شيء، بل تكون البطاقة دليله على كل شيء.كما يعين اسما معلوما للجميع كمرجع في حال اللزوم.ويكون ثابت المركز. (ضمن الصالة مثلا).
تداعيات في خاطري:
عندما وقفت أمام موظفي بوابة تل أبيض السورية لتسليمه جواز سفري للتأكد من صلاحيته للمرور، صعد إلى خاطري الفكرة التالية أو التداعيات التالية:
هذا الرجل كائن إنساني يفكر ويقف على رجلين ويتعامل بيدين ..كل ما فيه يوحي بكونه كائنا إنسانيا تكمن فيه مقومات بشرية مشتركة بين الجميع.وعندما انتقلت إلى الجانب التركي شعرت بالشعور نفسه،فالموظف الذي أمامي كائن بشري في هيكله. وعندما تخاطبنا –وكان يعرف العربية –شعرت بان كل ما فيه يوحي بأنه كائن إنساني يشترك مع الجميع بالمقومات البشرية ،وكان الشعور نفسه يخالجني وأنا أقف أمام الطرف الكردستاني في العراق،بشر يتحدثون ويفكرون ويسكنون هيكلا جسميا له المواصفات نفسه..وخلال الفترة شاهدت أنماطا من البشر أو أنواعا منهم يسكنون جميعا هيكلا بشريا له المواصفات العامة المشتركة والاختلافات البسيطة كلون البشرة أو شكل الأنف أو العين أو الطول أو القصر أو غير ذلك مما يعد صفات ثانوية لا تمس الجوهر الإنساني..
وطبعا كنت أشاهد على التلفزيون ألوانا وأشكالا مختلفة يشتركون جميعا في المواصفات البشرية الأساسية..وتساءلت:
ترى لماذا هذا التباعد بين البشر إذا؟!
لماذا هذا التصارع بينهم؟!
لماذا تجاهل المشتركات البشرية والتي –إذا روعيت-فإنها توفر عليهم الكثير من الآلام والكوارث التي تخلفها..إضافة إلى توفير الأموال الطائلة والتي ينبغي أن تصرف في عمارة الكون بدلا من هدم آثارها والموروثات التاريخية للشعوب –أيا كانت- فهي موروث بشري أكثر من كونه موروث جهة خاصة ..! فضلا عن ما يضفي التنوع من الجمال والتفاعل مع الحضارات القديمة والحاض1رة في تجلياتها الأجمل. والأكثر إيحاء للقيمة الفنية والمبدعة في الذات البشرية ..بدلا من الانحصار في اعتزاز متشدد قوميا او دينيا او طائفيا او غير ذلك.
أنا أعلم أن هذا القول سينعت بالخيالية..!. وفي أفضل الحالات بالمثالية..!.
فانا دارس للفلسفة، وأعرف الاتجاهات الفكرية، والفلسفية في هذا الميدان، كما اعرف الأثر النفسي في بلورة التفكير، أو التعبير، أو التصورات..الخ.
واعرف –من خلال قراءتي للتاريخ- على قدر ما توفر لي ذلك- بان الواقع البشري اعتاد هذه الكوارث والمغامرات؛ وكأنها جزء طبيعي في مسار الحياة في الكون، خاصة مسار الحياة البشرية..وما عاصرها من حروب وآثارها المختلفة،السلبية والايجابية –إذا جاز لنا تسمية بعض آثار الحروب بالايجابية-..!
ولكن ذلك كله لا يمنعني أن أتلمس ضوءا في آخر النفق –كما يقال – يكون إنارة لبدايات أفضل حالا وأكثر أملا في نمط جديد من الحياة تقل فيه السلبيات وتكثر فيه الإيجابيات.فالعقل البشري ينمو باضطراد عبر تفاعل مع الواقع الذي يتطور بتفاعل العقل معه أيضا في حركة جدلية لا اختلاف على وجودها وان كان تفسيرها يلقى اختلافا شديد التنافر أحيانا.إلى درجة التعاكس أو التناقض.ربما هذا طبيعي من أحد جهتين على الأقل،فإذا قبلنا بوجود خالق للكون عاقل مريد حي أزلي وأبدي …فلا ريب انه لن يضع أسرار الحياة كلها بين أيدي البشر دفعة واحدة،بل يقتضي أن يستمر البشر في البحث والتنقيب والتحليل والاكتشاف..إلى أن يصل إلى كشف هذه الأسرار تدريجيا ..لحكمة منه لا نعلمها.ربما يمكن تقديرها اجتهادا طبعا..والمجتهد إذا أصاب له أجران وإذا اخطأ فله اجر الاجتهاد وان اخطأ مادام صادقا وجادا في اجتهاده. وهذا مضمون حديث للرسول (ص) معروف..
وإما أن الكون وجد –أو اوجد ذاته- صدفة ،وهذا يقتضي أن فهم أسراره يخضع لتوفر معطيات علمية كأدوات ووسائل وقوانين..ينبغي على البشر بلوغها باستمرار لتسخيرها للخطوات اللاحقة..وهذا ما يفعله العلم منذ القرن السادس عشر خاصة، وبشكل فاعل، عندما تبين أن منطق أرسطو الصوري لا يكفي للكشف عن أسرار الطبيعة، فكتب “فرانسيس بيكون” كتابه المعروف بـ(الأورغانون الجديدة) معارضا أرسطو في كتابه (الأورغانون) وكلاهما له دلالة “الآلة” أو “الأداة” وهو بالضبط ما ترجم إلى “المنطق” في اللغة العربية.. ترجمة لكلمة لوغوس اليونانية ويعني (الكلام والتعقل معا).
منذ الأيام الأولى –وبحكم العقل الذي يتميز به الكائن البشري –فإن البحث جار عن الهدوء والاستقرار وطمأنينة النفس؛ بل وبلوغ السعادة باكتمال عناصر الحياة الأطيب والمتكاملة.
لذا فإني أستمد مشروعية تفكيري أو أملي من هذه التجربة،بل ومن الواقع الذي تظهر عليه بوضوح لا جدال حوله، مستوى تطور كثير الارتقاء منذ الخليقة الأولى وحتى اليوم.سواء في الإنتاج العلمي والتكنولوجي،أو في نمو مفاهيمي إنساني –حقوق الإنسان،الاعتراف بالآخر، السلم العالمي،التعايش البشري،الحرية ،الديمقراطية… الخ.
كما أستمد مشروعية هذا الأمل والطموح من رغبة متفق عليها بين البشر– نظريا على الأقل- للعيش بسلام ورفاهية ضمن مجتمع الكون كله.بما فيه البيئة ومحتوياتها -.
ولكن السؤال الملح والمتكرر دوما:لماذا الإنسان عدو الإنسان؟!
لماذا الإنسان، هذا الكائن الوسيم والوديع –في اغلب حالاته- يحمل في داخله قسوة لا تعادلها قسوة؟!
فهو وحش يفوق قسوة الوحوش أضعافا..الوحش يهتاج للدفاع عن نفسه..عند الخوف،أو من اجل العيش قد يقسو ويقتل –وهذه غريزة فطره الله عليها-ولا يتمتع بمزية التمييز والتحليل واكتساب القيم –كما هو الإنسان- ومن ثم فهو ليس مسؤولا أخلاقيا ولا قانونيا عن سلوكياته –مهما كانت مفرطة في السوء-.بل الإنسان يتحملها إذا كانت من مقتنياته أو ملكيته بشكل ما.
نسمع باستمرار عن تجاوزات وعن اعتداءات،وعن إجراءات تعذيب منظمة،ووحشية في ذلك كما في بعض الأجهزة التي تسمى أمنية وهي في الواقع قمعية وظالمة ومتعدية ،وفي غاية القسوة..حتى لقد اعتادت على التعذيب واستمرأته ووجدت فيه لذة ..!وهذه حالة مرضية في معيار علم النفس،وحالة مشوهة في التكوين النفسي الطبيعي للإنسان.وطبعا تختبئ القوى السياسية الحاكمة خلف إيحاء بان هذه الأجهزة تتصرف دون دراية منها ولكنه النفاق الأشد أثرا وبشاعة مما تقوم الأجهزة به من ممارسات في خدمة الأنظمة السياسية خاصة في شرقنا المنكوب بالأنظمة التي لا تزول إلا بالموت او الانقلاب-وهذه بحد ذاتها –من دلالات سوء التفكير والسلوك ..بل وخيالية تفكير هذه الأنظمة وهي ترى يوميا ما يحدث من صراع وانقلابات ومشاكل…عندما لا يمثل الحاكم إرادة شعبه..وكأنهم ينسون قول القائل:
هي الأمور كما شاهدتها دول===من سره زمن ساءته أزمان
لقد عاشت هذه الفكرة في نفسي منذ زمن طويل..
لماذا ..؟!
لماذا يستسيغ البشر أكل لحم أخيه الإنسان ..؟!
لماذا يتعسف في حرمان أخيه الإنسان من حقوقه المشروعة –في حالته كفرد-رجلا أو امرأة،كبيرا أو صغيرا..وفي حالته كجماعة قومية..دينية..طائفية…الخ؟!
ألا يدرك الإنسان أن خاصة بشرية مشتركة عامة تسري بين البشر جميعا فمن قتل إنسانا كمن قتل الناس جميعا،ومن أحياها كمن أحيا الناس جميعا.-كما قي القرآن- هذه القيمة الأعلى التي تلخص معنى الإنسانية المشتركة والمفروض أنها تعيش في ذهنية وسيكولوجية الإنسان.
نعم الإنسان يعيش على الفطرة وإنما التربية هي التي تكون الوسيلة الفاعلة لتشكيل تكوين الشخصية لديه،ومن هذا المنطلق كانت أهمية التربية. والجهد الذي يبذله الإنسان لإيجاد منظومة تربوية توفر أفضل العوامل التي تحسن تكوينها واستقامتها.ولكن المصالح وجذور الجهالة ترصد –دوما –طريقها وتعيق نموها وتطورها –لأسف-.
والأكثر إساءة هو أن تصبح العملية التشويهية للقيم والمفاهيم ،منظمة وعن سبق إصرار وعمد كما تفعله معظم الأجهزة القمعية المسماة :أجهزة الأمن تحت عناوين ومسميات مختلفة. والغالب أن أعضاء هذه الأجهزة هم ضحايا أكثر من أن يكونوا مستفيدين سوى حفنة قليلة هي المستفيد المباشر ولكنها ضحايا غير مباشرة أيضا.لأن الزمن لا يدوم لأحد في موقعه ، فكم قوي وقع فريسة لأعدائه،وكم ضعيف أصبح قويا ونال من جلاديه بشكل أو بآخر..وهذه بحد ذاتها مشكلة..!لقد كان صدام –كما يقال- يتلذذ بقتل أحد المساجين بإطلاق الرصاص في رأسه بعد أن يكون تلذذ بالتسلية معه بطريقة متعالية وجبارة..ولكنه شرب كأسا أمر وهو يجلس في قفص العدالة يتذاكى حينا ويذل أحيانا..يبدي شجاعة أحيانا ويبدي مهانة أحيانا.وان كنت أقدر له وقفته الأخيرة ،قبيل إعدامه وسط سلوك مشين من بعض الشامتين ..والذي لم يكن ملائما لمعايير محاكمته –العادلة –كما هو المفترض،وفي نظام جديد يتوخى ان يراعى حقوق الإنسان فيه..والمر يسري على كل الحالات المشابهة في أي مكان وفي أي زمان…سلودان ميلوزوفيتس(رئيس يوغسلافيا)..ومحاكمة بينوشيه.. وغيرهم..
الثأر الذي يظل يحيي القيم السلبية باستمرار ويحول دون تطور موجب للقيم،وتجاوز القيم السالبة..!
هذه الظاهرة الاجتماعية التي ابتلي بها البشر –مع تفاوت في تبنيها –فالبعض يحيلها إلى القانون وبعضهم لا يقر له قرار –وتحت ضغط الضغط الاجتماعي القبلي خاصة- إذا لم يطعن بنفسه الذي يريد الثأر منه..ويقال أن احدهم فرغ 29 تسعة وعشرين طلقة في جسم غريمه..ونحن نفهم عدد الطلقات الضرورية للقتل..فماذا يعني عدد الطلقات التي تفرغ في جسم ميت..؟!
………………………………………………………………………….
ملاحظات:
1- نشر الموضوع على الفيسبوك على عدة حلقات.
2- هذه المادة وغيرها ، المنقولة الى الموقع يحتاج اعادة نظر للعلم.