1- خاطرة في الجمال:
إذا جاز التعبير فيمكن أن نقول إن عظمة الشاعر –أو إذا شئنا الدقة-قلنا إن عظمة المعنى في الشعر هي أن يجمع البساطة في التعبير الى الجمال الكامن فيه. والمعبر عنه ولعل هذه الحالة ماثلة في قول الشاعر ابن الرومي:
يزيدك وجهه حسنا =إذا ما زدته نظرا
وفي تحليل الصور والمعاني في هذا البيت يبدو وكأن الوجه يتجلى في مرايا متقابلة بكل ما فيه من جمال يتكاثر في هذه المرايا. وكلما أمعن المرء، النظر، ظهرت طبقات أو تكوينات جديدة متكاثرة تشد المرء إلى ما فيها من جاذبية متجددة لا حدود ولا نهاية لها. إنها حالة نمو مستمر في الإحساس بهذا الفيض المتجدد من الجمال وما فيه من جاذبية.
هكذا يعبّر الإحساس بالجمال عن نفسه ومعانيه في هذا البيت.
وفي صورة، تتجدد، أو تتكاثر عبر مرايا متقابلة، تتبارى في إبراز الجمال البديع من خلال ملامح وجه، هو ميدان فسيح للتأمل (إذا ما زدته نظرا).
ربما كان إحساسا بشريا هذا الذي عبرت عنه، وينعكس على الوجه، فيحيله زاهيا، أو ربما كان الوجه نفسه ينطوي على سر يثير إحساسا وشعورا بجماله على الحقيقة الماثلة. وربما كان-ولعله الأصح-تفاعلا بين الإحساس والشعور البشريين، وبين سر في الوجه تشير اليه ملامحه المتناسقة، وجاذبية الروح فيه، فيحقق هذا الائتلاف الرائع. ومذهبي، إن الروح البشرية هي الأكثر تأثيرا وتجليا، ربما عبر الشعور الفياض هذا.
يقول محي الدين بن العربي (مجلة الطريق ص115 عدد “1” عام 2001)
وما الوجه إلا واحد غير انه=إذا أنت عددت المرايا تعددا
وفي كتاب: دراسات فنية في الأدب العربي-د. عبد الكريم اليافي. يكر قيما جمالية منها:
يقول الشاعر عمرو بن معد يكرب الزبيدي.
ليس الجمال بمئزر فاعلم وإن رديت بردا= إن الجمال معادن ومناقب أورثن حمدا
وينقل عن كتاب الأغاني للأصفهاني، القصة التالية:
“قالت سكينة لعائشة بنت طلحة: انا أجمل منك. وقالت عائشة: بل انا. فاختصمتا إلى عمرو بن أبي ربيعة، فقال: لأفضين بينكما:
أما أنت يا سكينة فاملح منها. واما انت يا عائشة فاجمل منها.
فقالت سكينة: قضيت لي والله.
تدل هذه القصة على نوعين للحسن وهما:
الملاحة، التي تتصف بها سكينة بنت الحسين، والجمال، الذي تتحلى به عائشة بنت طلحة.
…………………………………………………………………………………………………………………………………………………………
2-زمن يوم وليلة أم زمن عمر..؟
تتكشف الآفاق ببطء عن اشعاعات تنساب بهدوء في الفضاء الرحيب. ثم لا يلبث أن يغذيها قرص الشمس الذي يتعالى شيئا فشيئا، لتزداد الحرارة اشتدادا، والنور انتشارا، فيصحو كل مخلوق بأساليب شتى… فمن نشيط لا يتوانى عن الهرع والسعي… وكسول يساوم النفس للقيام أو البقاء… والشمس في جريها ترسم خطا منحنيا في السماء، عندما تغيب ليكون نصف الدائرة قد تم.
وخلال ذ لك يقضي كل مخلوق عملا أو يمارس سلوكا ما.. وإنه لكذلك إلى أن ينتهي الليل ليبدأ اليم التالي.
أحيانا يتأمل الإنسان في مثل هذا النمط من الحياة، يفكر فيها، فيما جناه من فائدة. أو إضافة بناء الى صرحها، أو الحصول على نتيجة وقع عليها. فلا يرى سوى تلك الفترات التي قضاها يعمل لروحه، أو لطموحاته المختلفة. هو يعلم أنه أمام خيارات ثلاثة:
– إيمان بما بعد الموت، وسعي لما يقتضيه.
– إنكار للبعث واعتبار الحياة فحسب. والعمل بمختلف الأساليب لقطف لذائذها المتصورة لديه.
– العيش وفق حياة مترددة. تتأرجح بين الأول والثاني. والتوجه القسري نحو الانهيار.
إن الحياة وأسلوبها تتحدد بعمل يوم وليلة فقط…!
ابن الجزيرة الثلاثاء 18/11/1980
…………………………………………………………………………………………………………………….
3-في الـقـطـار. السبت 21/11/1980
يقولون بان الإنسان تقدم إذ اخذ بأسباب الاختراع، واستطاع أن يسخر بالعلم موجودات كثيرة في الطبيعة لراحته .. وقد صدقوا فيما قالوا. ولكنهم اغفلوا شيئا لو وضعوه في الحسبان لترددوا فيما قالوا به.. لو انهم حسبوا ذلك التميّع (الميوعة) الذي ولّدته الاختراعات وتسخير العلم في ذات الإنسان ، لعلموا ان ذلك التقدم تتوازى فيه الراحة والانزعاج..!
بل لعل الراحة تقصر أحيانا عن في مداها عن الانزعاج.
التقدم في التكنولوجيا وفر -بلا شك-كثيرا من الجهد الإنساني والمشقة الناتجة عنه.. ولكنه وفّر أيضا الجوّ لانكماش خلقي بقدْر يجعل توفير الجهد بلا لذة .
على الأقل هذا ما شعرت به وانا في القطار.. فعربات تتسع لعدد يقارب الخمسين تجمع بين اعمارا شتى وثقافات متباينة واخلاق مختلفة.. ومن هنا تنبع الأزمة ربما..!
إن انكماش الأخلاق لدى اثنين منهم كاف لأن يشيع في العربة جوّا كئيب ا في احسن احواله، ومزعجا ومقرفا في أغلب أحواله.
أربعة شباب في مطلع العمر لم ينسوا أن يتزوّدوا بكل ما يملأ بطونهم، وبكل ما يوفّر لهم من أسباب اللهو.. ولكنهم فقط نسوا بأنهم في جو عام ينبغي عليهم أن يقدروا حقه..
البذور تؤكل وترمى قشوره بلا مبالاة…!
الماء يسكب على أرض العربة دون حساب لما يسببه من قذارة وإزعاج.. ويعلو الصياح عند كل بادرة ربح او خسارة ،أو خطأ أثناء لعبهم ورق البستوني، وكأنهم في خلاء ليس بعده خلاء..!
ولعل المصيبة كانت ستهون لو أنهم اكتفوا بما سبق.. ولكنهم كانوا متزودين بقناني من مشروب متنوع يرتشفون منه الفينة بعد الأخرى على مدى ثماني ساعات في الأحوال الطبيعية كان علينا أن نواجه المتاعب الآتية من سلوكياتهم..
وجاء القدر ليتدخل فينوّع في المصيبة ليخفف من وطأتها بتنويعها. فقد توقف القطار في العاشرة تقريبا.. قرب مدينة الرقة . كانت عربة من قطار الشحن الاتي قد تعطلت واعترضت سبيل قطارنا وهي ملأى بالاسمنت-400-كيس وبدانا نواجه المشكلة. إن حدوث المشاكل في أي امر شيئ محتمل ولا غرابة في ذلك. غير ان الغرابة والصعوبة تكمن في أسلوب معالجة المشاكل، لاسيما في مجتمع مثل مجتمعنا والذي تطبعه اللامبالاة – أو تغلب فيه-والتهرب من المسؤولية، معظم اتجاهاته السلوكية. وهكذا كان في شأن مشكلتنا…!
فقد دار قرص الهاتف من غرفة القيادة بلا هوادة ولكن الاستجابة تمخضت-بعد فترة طويلة-عن أربعة باصات نقل في حين ان الحاجة تتطلب ضعف هذا العدد على الأقل.
والمشكلة الأخرى برزت حول أجرة النقل إن كانت المؤسسة (القطار) ستدفعها أم الركاب. ؟!
وبعد معالجة طويلة أعيدت الباصات إلى أماكنها وعاد الركاب إلى القطار. وتم إفراغ العربة المعترضة من حمولتها. وأزيحت عن السكة وكانت الساعة تشير إلى الثانية إلا عشر دقائق لحظة انفراج الأزمة. واستئناف القطار لمسيره.
علمت فيما بعد بان باصا واحدا من جملة الباصات الأربعة قد سار إلى حلب بعد قبول راكبيه دفع الأجرة من عندهم. اما القطار فقد وصل إلى حلب في الخامسة صباحا.. وكان منظرا ملفتا للانتباه..!
حمولة القطار من الركاب يقطع الشوارع وكأنهم في مظاهرة تبتلعُ مداخلُ الشوارع والأزقة أفرادا باستمرار ..وما ان بلغنا مركز الباصات حتى كان الجمع كله قد تلاشى…!
في تلك اللحظات ..لا زال الظلام مخيما.. ولا زالت الحركة خامدة.. ولا زالت أنسام من الهواء الليلي البارد تلفح الوجوه.. كانت الخواطر في النفس تتوالى..
منها ما يعود إلى الماضي البعيد ..البيت والحياة المدنية وظروف العائلة والوظيفة..
ومنهاما يعود إلى الماضي القريب عندما توقف القطار وما كان يوحيه الجو من أفكار وخواطر غريبة.. ومنها خاطرة التفكير بالنوم..!