معرض دمشق الدولي لعام 1977
الأربعاء 27/7/1977
عندما تحدث ظاهرة اقتصادية كبرى كما هو في معرض دمشق الدولي فإن حوافز مختلفة منها اقتصادية ومنها نفسية تحفّز المرء لارتياد ساحته.
هذه الحوافز تظهر بصورة أحلى من خلال طواف الزائرين. فعلى الرغم من استحواذ المعروضات على إعجاب الجميع – كما بدا لي أمس-…!
فقد كان القسم الأكبر غرضه النظر وإبداء الإعجاب والتحسّر أيضا، إذ لا يستطيعون حتى التفكير بامتلاك بعض هذه المعروضات المغرية. هنا تساءلت: ترى ما الذي يدفع بهؤلاء إلى السّير ساعات متجولين بين أجنحة المعرض. وليس لهم منه “إلا لذة النظر.” ؟!
إلا أني ما لبثت أن أجبت نفسي. على تساؤلي.
فالإنسان، هذا الكائن العاقل المتطور الذي يعيش حياته بالوسائل المتاحة له تطلّعا إلى “الأفق البعيد” ،
تدغدغ مخيلته الآمال المختلفة، وتعطيه دفعا قويا لما يبذله من جهود مضنية لبلوغها. بل إنه ينهار وقد يزحف نحو الموت إذا انطفأت شعلة الآمال هذه.
عندما يمر الانسان بهذه المعروضات تستفزه دقة صنعها، وغرابة تأليفها، نحو التفكير بنفسه وبمبدعها، وإدراك الفارق بينهما، ومن ثم معرفة السر في ذلك لتتبع خطاه واستنهاض الهمة والعزيمة لديه، لتطوير ذاته، وتطوير شعبه وبلاده.
وهذه هي ربما، ميزة الحرمان-إذا جاز لنا ان نعتبر للحرمان ميزة-.!
إنه يتيح للإنسان أن يفكر، بل ويتعمق فيه (يتأمل) ولشد أوتار العزيمة فيه. ولعل هذا هو السرّ في أن علماء ومبدعين إنما انطلقوا من أرضية الحرمان، أو أن حياة رفاهية كانت متاحة لهم؛ لكنهم زهدوا في ذلك النمط من العيش، واختاروا نمط حرمان وفّر لهم معاناة او توترا او تفرغا …يشكل مناخا خصبا للتفكير.
قد تبدو الفكرة متناقضة مع نظريات تحث على توفير الرفاهية. والأشياء للإنسان حتى تمكن الرعاية الكاملة له، وبالتالي تتفتق قواه بمجملها عن الإمكانات التي يعيشها، ويسخّرها لخدمته وخدمة الآخرين. وإنني أتحفظ إذ أقول: نعم.
ميزة التفكير أنه لا يتحقق إلا في ظل معطيات كثيرة مبعثرة يتخللها المجهول الذي يتتبع الفكر خطاه دوما للكشف عنه وتطويعه بمعرفته ..ويزداد هذا التحقيق بازدياد الحاجة التي تحفز دوما للامتلاك سواء أكان في مجال معطياته النظرية أو المادية، ولكنه أبدا في مجال الأولى أظهر وأنشط، إضافة إلى أن توفير المناخ المادي المترف يؤدي إلى تقليل الحاجة وإلى نوع من التخمة التي تبلد الذهن، أو على الأقل توجه نشاطه نحو ترف أشد قد يتخذ شكلا غريبا حقا- إذا تمسكنا بالمعايير الفلسفية والأخلاقية والاجتماعية- ولقد يبلغ النشاط الموجه نحو الترف درجة تتحكم فيه الآلية التي تنتطوي عليها تطور معطياته بقطع النظر عن مدى فائدة هذه التطورات على المستوى الاجتماعي بالرغم من المحاولة الدائمخة إلباسه ثوب الفائدة القصوى للمجتمع.
الترف ملب إنساني دائم..ولكن في حدود لا يبعده عن إنسانيته..فمن المعروف ان الترف يلبي متطلبات النفس أكثر من متطلبات العقل. وبقد ما نزيد في اعطائنا الترف للنفس فإننا نرقق من حال العقل.. والإنسان ((بالعقل لا بالنفس إنسان)).
إذا قصرنا الإنسان على النفس فهو كائن حيواني لا يتميز عن الكائنات الحيوانية الأخرى في شيء. وما استطاعت الحيوانات يوما أن تتطور وتبلغ ما بلغه الإنسان بفضل العقل الذي ينكره الكثيرون إما عمليا أو نظريا، من خلال تطويعه لاندفاعاتهم الغرائزية وتبرير هذا التطويع تبريرا لا يقف إلا على أقدام هزيلة ما دام العقل أساسا هو المعيار المعوّل عليه في مثل هذه الأحكام. رحم الله الجاحظ الذي عرف أسلوبه بالاستطراد..فقد كان يتحدث عن أمر ولكن فكرة ما منه تجرجره فيتتبعها بحثا واستقصاء حتى ليكاد القارئ أن ينسى الفكرة الولى وإذا به يعود فجأة إليها..وهذا ما حصل لنا.
بالأمس زرت معرض دمشق الدولي فتجلت لي أمور أولاها: أن الإنسان ذا الحالة المادية العادية والفقيرة لا يستفيد من المعروضات سوى الإطلاع والاستمتاع النظري بعظمة الإنسان. والزائر إنسان يشعر بإنسانيته من خلال تواصل بين أفراد النوع الإنساني، ومن ثم تحسر في قلوب البعض يدفع إما إلى عزمهم على العمل أو يزيد إلى كسله طبقات أخرى من الحسد الأعمى فيلعن حظه ويشتم أبويه ويسب المجتمع بكليته.. وإنني أتوجه بالقول إلى هؤلاء:
ليست الحياة يوما أو بعض يوم..
إنها طويلة – كما يقول المثل الشعبي-الدنيا طويلة. فالأولى بك يا صاحبي أن تنشط لبناء نفسك
………………………………………………………………………………………………………………
-عبارة مقتبسة من بيت شعر للشاعر عمرو ابن ابو ربيعة ،يقول فيها : “واني امرؤ مولع بالحسن أتبعه = وليس لي منه إلا لذة النظر
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………..
غلاف الكتاب
قناعتي بان القصة الروائية باسلوبها العصري تقل فائدتها الإجرائية، لا تمنع أبدا من الإشارة على ان بعض كتابها بقدرة فنية ونية صافية يزيدون من فائدتها..ولست الآن بصدد بيان هذه العوامل..ولكن ظاهرة في هذا النوع من القصص هي التي شدتني إلى الكتابة عنها اليوم..وهي ظاهرة (صورة الغلاف) المتميزة دوما برسم وجه أو هيكل نسائي فيه ابتذال في رسم حركات الجسد، أو عري بعض الأجزاء،وبخاصة الصدر..فامامي مثلا قصتان أعجبت بمضمةنها، وإلى حدما بأسلوب كتابتهما ولا سيما المترجم منهما وهي:
ورد الخريف للمؤلف أندريه موروا، واما العربية فهي القاهرة الجديدة للمؤلف نجيب محفوظ – وكلاهما صادرتان من دار القلم- بيروت.
فالولى تعالج ظاهرة الشيخوخة والمقدرة الجنسية والعلاقة بين الزوجين واثر حيوية الصبيا على الكهول عندما تقصر الزوجة عن تحقيق مآربه الحسية والعاطفية..على الرغم من البيئة الثقافية الغنية التي يعيشان فيها..!
والثانية هي ترجمة للأساليب الملتوية في دولة تسود في علاقات أفرادها النفاق والمظهرية ووليدهما الظلم..ولكن الذي يتبادر إلى الذهن هو سؤال:
لماذا يحرص الرسام او المؤلف أو ربما الدار التي تصدر هذه الكتب..لماذا يحرصون على أن تكون صورة الغلاف دوما فتاة..؟ وتكون في حالة إغراء وإثارة..عارية الثديين والأكتاف..قصير الفستان..ملامح الوجه مثيرة..العيون والشفاه غجرية..الثديان مكتنزان وناهدان..كل ما فيها يصرخ..ويدعو إليها..؟!
هل هذه من عوامل الإغراء لشرائها..؟
إن كان كذلك فبئس القصد..وبئس العمل أيضا..!
إنه أسلوب رخيص يبعث على التقزز في النفوس الناضجة، ويعرض أصحابها عن اقتنائها..إنها كتب ستوضع في مكتبة الدار..أليس من الأنسب أن تكون ذات أغلفة تحمل معان فاضلة لا توحي بالمعاني الجنسية لأول وهلة..؟!
إن الجنس ليس أمرا مقززا كما قد يظن البعض، أو ربما يحاول البعض أن يختبئوا وراء هذا الاتهام..ولكن الجنس ظاهرة حسية حساسة في المرء ولاسيما في سن معينة وأي ملامسة لها وبأية طريقة حتى وإن كانت بإثارته الحواس السمعية أو الشمية أو لبصرية فانها مثيرة لها..والكل يعرف معنى هذه الحالة..وما تريد..ولعل ما تريد لا يكن ميسرا بالأسلوب الصحيح فماذا يفعل المتهيج..؟!
إنه سيبحث عن ما يروي ظمأه أينما كان ومن أي مصدر كان..وهذا ما نسمع الكثير عنه..في روايات الناس، وأخبار الصحف والمجلات والإذاعات..الخ.
فلماذا نسعى إلى- أو نتحمل مسؤولية أخلاقية وإنسانية عامة عنه..؟- وفي وقت نرغب فيه أن نحسن هذا الأمر ونصلح فيه..؟!
…………………….
أمسية شعرية في المركز الثقافي…………….ا
لأحد 16/آذار/1980
في الساعة الخامسة والثلث كان الشاعر (إسماعيل عامود) يستهل امسية شعرية بحديث يمس أوتار العاطفة لدى الجمهور الذي غلبت عليه صفة التلمذة. فلم يكن بين الحضور من الكبار والموظفين إلا قلة لم تتجاوز خمسة عشر. مس اوتار العاطفة عندما قال:
أحب “المالكية” فهي مرتع الطفولة. لقد كنت فيها عندما كان عمري في التاسعة. وأحب “الجزيرة” أيضا. ثم اشار إلى انه سيقرأ ثلاثة اجناس من الشعر، وانه لا يرى غضاضة في قول الشعر بأي طريقة. على طريقة العمودي، أو شعر التفعيلة، أو الشعر المنثور.
لا غضاضة في قول الشعر بأي طريقة، مادام هو شعر، وليس نظما. ثم بدأت قصائده تتوالى:
– الدخول في طقس الحبيبة.
– على الجسر.
– افتحي الباب.
– وجع الزمن الآتي. الخ.
عناوين قصائده تدل بوضوح إلى الرمزية التي تمتد جذورها في اثناء القصيدة. فلا يخلو منها شطر. بل إنه يكاد يبث الرمز في كل كلمة.
رمزية لمستها من خلال إلقائه، وقد أقر بها بعد اللقاء به. يسمي هذه الظاهرة بالجو الضبابي الذي يحيط بالقصيدة. كما يرى أن الكلمة ينبغي أن تثير الخيال، وتستثيره ببعض غموض.
عبرت له عن رأيي بان الرمزية في شعره ترده إلى ذاتية مغرقة. فاستشهد بناقد سوفييتي في وضعهم لأسس النقد بأنهم إنما ينطلقون من ذاتياتهم. ولكنهم يسعون إلى ان تنسحب هذه الذاتية على الجمهور.
وفي حديثه عن شخصية الشاعر قال:
إن طرقه لأبواب الموضوعات القديمة كالرثاء مثلا، سيجعله مقلدا للشعراء القديمين. ولكن اعتراضي عليه بالقول: أن التقليد عندما تضاف إليه، روح المقلد لا يعود تقليدا. ثم إن التأثر بالسابقين ضرورة لا بد منها. فالتواصل الإنساني والتكامل أمران مطلوبان في تكامل بناء حضاري شامل. وقل كذلك بالنسبة للشعر. فقال: هذا تفاعل، وانا اوافق على ذلك.
ولكن ما كنت اود ببانه هو أن الاستهلال الذي يلتزمه بعض الشعراء كاستمرار لنمط معين لا يعجبني. واخيرا سألني عن رأيي في شعره. فقلت:
الشعر فيه جمال. ولكن النثر الشعري كان أكثر، وانا أميل إلى الموزون أو الأقرب إلى الموزون. وتدخل رئيس المركز الثقافي قائلا: يعني انت كلاسيكي…؟
أجبت معترضا: ليست الكلاسيكية بالمعنى الدارج، وإنما قصدي ان يكون لمضمون الشعر إطار مميز عن النثر.
….
تعليق من العام 2016
بعد قرابة أربعين عاما أقر، بان شعر النثر –في العموم-أكثر قربا من ذائقتي، مع أنني أميل بقوة، بل وأتذوق بشدة الشعر الكلاسيكي المبدع .